نقد الحال الراهن (16) الجمود

د. صالح الفهدي

حين تولّى رئاسة إحدى المؤسسات اقترحت عليه أن يقوم بعملية "حلحلة" فيها، أي إحداث تغيير لانتشالها من الجمود الذي سارت عليه في عهد سلفه، فقال: هذا لا يجوز في حق الرئيس السابق..!! وهكذا واصلت المؤسسة جمودها..!

إنّ السؤال الشعبي المتداول بين الأفراد في مجتمعاتنا: ما الجديد؟! والإجابة الشهيرة عليه: لا جديد تحت الشمس..!! هذا السؤال وإجابته يختزلان واقع الحال إذ يخيّم الجمود على الكثير من مناحي الحياة في مجتمعاتنا، وتلقي السكونيّة بثقلها على مواطن كثيرة، حتى قلب العقل المعايير في النّظر فأصبح الجمود استقرارًا والاستقرار علامة في الإصطلاح الاجتماعي على الرّخاء، لكنّه في الحقيقة مرادفا للسكون والثبات..! وأصبحت القناعة في فهم الناس تعزية عن الغنى والنجاح في حين أنّها مثبّط عن العمل والجهد والكفاح ومرادفة للتواكل..! وصارت القدرية تسلية للنفس، وجبر لخاطرها عن المبادرة والمثابرة والتوفيق بحجّة أنّها من الإيمان في حين أنّها استسلام وإذعان لتأثيرات القوى الخارجية وكأنّه لا دخل للإنسان بكل ما يحدث له وهذا غير مفهوم القدر الذي يرتبط بعلم الله المسبق بالحوادث المقدرة للإنسان.

لقد اتسم هذا العصر بطابع الحراك المتسارع والتقلبات المتتالية والمتغيرات المتلاحقة، وهو ما يعني أنّ المجتمعات الجامدة تخرج من مفاهيم النواميس الكونية والطبيعة العصرية إن لم تتحل بالديناميكية (النشاط والحيوية) اللازمة لمجاراة العصر، يقول د. على أسعد وطفة في كتابه (الجمود والتجديد في العقلية العربية):" لا يمكن لأمة من الأمم أن تناهض اليوم عن وجودها وهويتها إلا إذا استطاعت أن تحدث تحولات نوعية في العقلية السائدة نحو صيغة علمية جديدة قادرة على حمل رسالتها في عالم تحكمه العقول القادرة على الحركة والنفوس الطامحة إلى الإبداع والعمل. فالمضامين العلمية الابتكارية للعقل تشكل في عالمنا المعاصر مبتدأ وخبر الرسالة الحضارية، وذلك لأنّ الحضارة المعاصرة تتكون وتتشكل على وقود العلم والمعرفة العلمية".

الإشكاليّة أنّه ما لم تنتشل مجتمعاتنا نفسها من قيود الجمود لتنطلق إلى فضاءات الإبداع والإبتكار بخفّة وحيوية وذلك بتحرير العقل من مسلّماته، ونسف رضائه بكفاف العيش، وطرد التفكير السلبي منه، وتنويره بأحدث العلوم العصرية، وإذكاء روحه بالقوى الدافعة في إيمانه وإرثه، ووعيه الدقيق بالزّمن، ما لم يحدث ذلك فإنّ التغيير يأت من الخارج وهو تغيير مفروض لغير صالح الهويات الاجتماعية، إذ يمضي بها في نسق آخر يشكّل هو ملامحه وطبيعته وهذا ما هو يجري الآن..! ترى منى خويص في كتابها "الأبواب المغلقة: دراسة حول أزمة التغيير في العالم العربي": "أنه إذا كان بعض مؤرخي الشرق الأدنى يعتبرون أنه انغلق على نفسه منذ القرن الخامس عشر الميلادي، حيث بدا متجمدا مرة واحدة وإلى الأبد، فإنّ هذا الانغلاق، وذلك الجمود لم يعودا حالة قابلة للصمود في وجه المتغيرات المستجدة على العالم. قلاع الجمود الحصينة أصبحت عرضة لتحولات كبيرة اليوم، إن لم يكن بالانهيار الداخلي فبالاختراق الخارجي".

إحدى أكبر الإشكاليات في مجتمعاتنا تقع حين يكون على رأس المؤسسات من لا يمتلك القدرة على التغيير لعدم كفاءته، وقدرته على إحداث التغيير، لهذا يصيب الشلل المؤسسة التي يرأسها فتجمد وتتعطّل وفقا لذلك حركة التنمية التي أنيطت على كاهلها، لهذا فإنّ اختيار القيادات الأمثل والأكفأ هو المنفذ لعدم إغراق الأوطان في وحل الجمود..!

في إحدى الدول العربية طلب بنك النقد الدولي من حكومتها التخلص من الموظفين بحجّة الترهّل الذي أثقل كاهلها فسبب لها الجمود، فكان قرار حاكمها أن يعاد تأهيل الموظفين، فإذن يبدّد الجمود بتغيير الذهنية، واستبدال طرق التفكير، وإعادة توظيف قوى الإنسان لإنتاج ما هو أنفع لنفسه ولمجتمعه.

إنّ الجسد إذا تخثّرت دماؤه ثقلت حركتها في الأوردة فكان لزاما على الأطباء إسعافها بحفنات من الإسبرين لكي تخف غلظتها فتنساب في الأوردة لتؤدي وظيفتها في الجسد، كذلك هو حال المجتمعات الإنسانية إن شابها الجمود أثقل حركتها، وأغلظ مسيرها وهي تحسب أن ذلك من رغد العيش وبحبوحته وهو في الحقيقة تقهقر وتراجع لأن العيش خال من التجديد الذي هو أساس الحياة وركيزتها. وليس أصعب من أن تجد الجيل الشاب وهو يركن للجمود، فكم قرأت لشاب أو فتاة جامعيّين قولهما: لِمَ نتغيّر؟ نحن راضون بالحال..! فتسأل نفسك: ما هو الحال؟ وهل هناك حال ثابتة إلا التغيير نفسه..! هنا أقول: إن لم تتعزز قيمة التغيير في ذهنية الجيل الشاب فإننا نكون عرضة للقانون الفزيائي المسمّى بالعطالة أو القصور الذاتي Inertia ومعناه مقاومة الجسم المادي لتغيير حالته من السكون إلى الحركة بسرعة منتظمة وفي خط مستقيم ما لم تؤثر عليه قوة تغير من حالته أي أن كل جسم مادى قاصر عن تغيير حالته (من السكون أو الحركة) ما لم تؤثر عليه قوة تغير من حالته..! هذا ما يحدث طوعا أو كرها..!

لا بد وأن يكتسح التجديد كل شيء في حياة الأفراد والمجتمعات لأنّه لا شيء يؤخرها ويرديها في ذيل الرّكب كالجمود، فالعلم إنّ لم يتجدّد قدم، والطبّ إن لم يحدّث بلي، والتشريع إن لم يتوافق مع "المصالح المرسلة" رثّ، والتنمية إن لم تقم على الاستدامة تعطّلت، والإدارة إن لم تستنر بعلوم العصر تبلّدت، والسياسة إن لم تتغير وفق معطيات المتغيرات تلكّأت..! الإنسان بصورة عامّة إن جمد تخلّف، فهو كالماء إن ركد أسن، وإن سال طاب، لهذا فلا تنمية بلا إنسان ولا إنسان بدون فكاك من أغلال الجمود، وبراثن الخمود. تقول الكاتبة السعودية "حصة آل الشيخ":" إننا مجتمع بسيط يركن للجمود لا التغيير المستجيب لراهنية الواقع" وتضيف "إنّ التغيير ينظر له بعين التوجس بوصفه مشروعا تغريبيا للمجتمع، وهذه النظرة الوهمية ترسّخت بفعل التبعية المطلقة لأصحاب فكر الجمود والتشدد".

ومرجع ذلك إلى المفاهيم والتصورات التي حشي بها العقل الماضوي المثقل بالقيود التي تسبب الكثير من الإشكاليات في الحاضر وتمنع العقل من الانطلاق نحو فضاءات المستقبل..!

خلاصة القول: إنّ الجمود مقبرة الحضارات، فالحياة نفسها تعني النمو الذي هو عكس الجمود، وليس من أمر يدفع المجتمعات إلى الفاعلية والتنافسية والتسابق مع الأمم إلاّ خفّة حركتها، وقدرتها على التغيير، وسرعة اتخاذها للقرار، وديناميكيّتها في إدارة شؤونها، ولا يصيب المجتمعات بالجمود إلا القيادات غير الكفوءة التي تقتل الأعصاب الحيّة في جسد الدّول، ولا يصيبها بالخمود إلا تعطيل المورد البشري المؤهل، وتضييع الوقت، وتبديد الثروات.

تعليق عبر الفيس بوك