الدراما العُمانية.. من النصِ إلى العرض

هلال بن سالم الزيدي

تُمثل الدراما في أُطروحاتها أهمية كبرى بالنسبة للمجتمع، في المقابل يعتبر المجتمع النواة الإلهامية الأولى التي تعطي الدراما قوة في تعاطيها مع قضاياه بمختلف فئاته ومستوياتهم الثقافية والعلمية، ومعالجتها لمختلف تلك القضايا باتجاهات مختلفة واضعة التطور الفكري والتقني الذي يسير فيه ركب الإنسانية نصب أهدافها، لذلك فإن الإيمان بأهميتها ينبع من قوة الفكر الذي يقوم على بناء لبناتها وتقديمها في قالب يتميز باحترافية من حيث اختصار الزمان وإلقاء الضوء على المكان بما يحتويه من مكونات ومستجدات في الحياة العامة، مرورا بأهمية الفكرة المقدمة والتي تبحث عن حل أو تغيير مسار معين بما يخدم مصلحة اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية أو حتى سياسية، مركزة على التغييرات الاجتماعية والسياسية التي تعصف بالمجتمعات والتي تستنبط الدراما منها قوتها عندما تستند على تلك الإفرازات بغية منها في الارتقاء بالمجتمع، لأن الدراما هي رسالة خلاّقة ذات قوة في التأثير، إذ لا بد من استخدام هذه القوة بما يلاءم حاجة المجتمع وبما يخدم توجهات الشباب الذين أصبحو غير مقتنعين بما تقدمه لهم كونها ابتعدت كل البعد عن معالجة قضاياهم.

لا يختلف إثنان على أنّ مسيرة الدراما العُمانية هي مسيرة بطيئة في تطورها متكررة في شخوصها وبعض من أحداثها، ويحاول القائمون عليها التغلب على الكثير من الصعوبات التي تعترض طريقها في خضم التطور الهائل التي شهدته وتشهده الدراما الخليجية والعربية بشكل عام، ولعلّ التراجع الذي سيطر عليها يندرج تحت العديد من الأسباب التي تعيد نفسها في كل سنة، لذلك اتسعت الفجوة بين الدراما العمانية والمشاهد العماني، فأصبحت دراما موسميّة مربوطة بشهر رمضان فقط، مما أثر في تطور مستواها ومستوى القائمين عليها، لأنّ الأعمال الموسمية دائمًا ما تقتل الإبداع لدى الفنان أو ممن يرتبط بمسار الدراما من نصها إلى عرضها، فهناك من يرجع هذا التراجع إلى عدم جدية الجهات القائمة على إنتاج الدراما، كونها لم تكن ذات عمق في التعاطي مع قضايا المجتمع لذا كان لمقص الرقيب الكثير من التدخلات التي لم تبن على أساس فني وإبداعي، وإنما كانت اجتهادات تراكمية لبعض الذين يديرون الدفة والمتغيرين بين الفِينة والأخرى، إلى جانب وقوعها تحت سيطرة ثُلة من الشخوص الذين يريدونها حسب توجهاتهم، بالإضافة إلى احتكارها من قبل "لوبيات" معروفة فيدورون بها في دائرة مفرغة.

لم يكن الجفاء الذي انبرى بين الدراما والمشاهد هو الذي ساهم في انحراف مسارها، وإنما هناك فجوة كبيرة وعميقة كونتها الدراما بين منظومتها والقائمين عليها، لذلك نشهد بين فترة وأخرى التلاسن بين الفنانين أنفسهم واتهامات فيما بينهم بأنهم هم سبب التدني الذي تشده الدراما العمانية، ولعل الإشارة هنا لا تنطبق على الكل وإنما أصبحت ظاهرة تحتاج إلى من يقف عليها كونها أثرت في ثقة المشاهد بالفنان الذي يقدم الدراما.

إن المتتبع للدراما العُمانية يلحظ ويلمس خلالها التكرار في الطرح " النص" إلا ما رحم ربي من أعمال فنية، وهذا سببه قلة كتّاب الدراما ومحدودية أفكارهم التي تعتمد على ذواتهم في الارتقاء بها وصقلها، لذلك كانوا مجتهدين أكثر من عارفين بكل مستجدات هذا الفن في طرح القضايا، إلى جانب ضعف التقدير من الجهات الراعية للأعمال الفنية مما أثر في تكوينات الكاتب الفكرية عند دخوله إلى غرفة مقفلة لكي يستجمع أفكاره، لأن الكلمة ومن يكتبها لا يجد نظير ذلك الجهد وتلك الإعصارات والتأزمات الفكرية ما يستوجب بأن يأخذ من وقته للإبداع، بالإضافة إلى إخضاعه تحت سرعة الوقت لإنجاز عمل سريع من أجل شهر رمضان (قبل بشهر) أو عنفوان وسطوة لجنة النصوص في تقييمها حسب ما يدّعيه البعض، ولعل عدم وجود اشتراطات أو مبادئ واضحة من قبل مقص الرقيب ساهم في قلة المعروض من أفكار، فتجد في تلك اللجنة من يوافق وتجد من يعارض لمجرد عدم توافق صاحب العمل مع أفكار صاحب القلم.

تغفو الجهات المتعهدة والمتكفلة بتطوير الدراما في سباتها العميق قبل شهر أو شهرين من شهر رمضان من أجل البدء في تنفيذ الأعمال الدرامية، لذلك يعيش طاقم أي عمل في حالة هستيرية تبدأ من مخرج العمل وتنتهي إلى فني الإضاءة والمساندين الآخرين، فيسابقون الزمن للانتهاء من العمل لمجرد الانتهاء فقط، دون التركيز على قوة العمل وتسلسل الفكرة المكتوبة والمفتقدة أساسا لسيناريو درامي أو ما يعرف "بالسيناريست" فيكون المخرج في مواجهة قصة مكتوبة بشخوص مختلفة وكتل صلبة لا يقوى على تفتيتها لمصلحة العمل لعدم وجود الوقت أو لعدم وجود الخبرة الكافية لإنتاج عمل متكامل.. فيشوب العمل التكرار في الطرح والتكرار في الوجوه.. فكيف لعمل فنّي يراد له التأثير والوقوف على قضايا اجتماعية أو اقتصادية أن يكون مقنعا لجمهور عريض ومتفاوت الثقافات في ظرف وقت قصير؟

قبل فترة قرأنا خبر إسناد مناقصة مسلسل درامي بما يقارب ربع مليون، وهو مبلغ زهيد جدا إذا ما قورن بتكلفة أي عمل فني درامي، لذلك كانت الموازنات المعتمدة لأي عمل درامي (مسلسل) هي موازنات ضعيفة، وساهمت بدورها في تدني المستوى الفني لتلك الأعمال، وهذا سببه عدم وجود مختصين في مجلس المناقصات بكيفية إنتاج حلقة واحدة من مسلسل مدته 30 حلقة، لذا كانت النتيجة فتاكة أو كما قيل لست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.. لأنه لا يمكن أن نوكل اعتماد الموازنات لأشخاص لا يعرفون أساسا ما هي الأعمال الدرامية، وكيف تخرج فيما بعد إلى العرض كي يجد المشاهد ضالته خلالها، من هنا لا بد أن تكون الاعتمادات المالية أساسا قويا في قوة الدراما ونعترف بها نظير الجهد المقدم من قبل منظومة الأعمال الدرامية.

إنّ التجانس الذي يشكله المشهد الدرامي يعتمد كذلك على الفنان الذي يجسد أحداث القضية، فالفنانون العمانيون معدودون على الأصابع ومعمرون في الحياة الفنية حيث إنهم أصبحوا مستهلكون في أدوار محددة دون تجديد فيها، وبالتالي فإنّ الأجيال الحالية لم تعد تتقبل الأداء المعاد من قبل البعض لأنّ هناك فارقا فيما يحتاجه الشباب عمّا يؤديه أولئك المعمرون والذين لم يتطوروا في انتقائهم للشخصيات التي يجسدونها في الأعمال الفنية، وبالتالي زادوا الطين بلة، في قوة الإقناع بما يقدمونه، ومن أجل المصداقية فإننا لا ننسف جهودهم إنما نريد جيلا من الشباب ممن يكمل مسيرتهم بطريقة تتناسب واحتياجات الأجيال الحالية، ومن نافلة الشيء بالشيء يذكر، فلا بد من الإشارة إلى الفلسفة الفنيّة التي اتبعها الفنان القدير سالم بهوان في تجديد وجه الدراما العمانية، في عدد من الأعمال الدرامية أو الأفلام حيث منح في مسلسل "ود الذيب" مساحة كبيرة للوجوه الشابة والجديدة في الظهور حيث اعتمد عليها بنسبة كبيرة، كما أوجد مساحات متوازنة في أفلامه لشباب المحافظة التي صور مشاهد الأفلام فيها، كمحافظة ظفار ومسندم مثلا، لذلك فقد آن الأوان أن يفكر المنتجون في إشراك الصف الثاني والثالث من الشباب الذي يعرفون كيف يخاطبون جيلهم (سواء كانوا من كتاب أو مخرجين أو ممثلين) حتى نقلص من الفجوة بين الدراما والمتابع.

إنّ ابتعاد القطاع الخاص عن دعم الأعمال الفنيّة سبب آخر في تدني المستوى، ولعلّ تخوف هذا القطاع من خوض غمار هذه التجربة لا يمكن السكوت عنه ويجب أن تقبِل المؤسسات الخاصة في إثراء منابع الدعم من أجل تكامل الأدوار، وتنشيطا لمبادئ المسؤولية الاجتماعية تجاه المجتمع، لذا فمن الواجب على القطاع الخاص أن يكون مقبلا لا مدبرا، للمساهمة في انتشال الدراما العُمانية من تراجعها، وليقف جنبا إلى جنب مع شركات الإنتاج التي تتخبط في مسارها من أجل قوت يومها، لأنّ ثقة الجهة الراعية للأعمال الدرامية بشركات الإنتاج تزعزعت وأثرت عليها المحسوبية بين متخذي القرار والمستنفعين من أجل المادة فقط.

تسير الحركة الدرامية بين مد وجزر لا نعرف أين نضعها من حيث قوتها الفنية ومبادئها الاجتماعية والثقافية، وبالتالي ومن أجل اللحاق أو الاقتراب من مسار الدراما العربية علينا أن نعترف بوجود الخطأ .. وعلى الذين لا يريدون مغادرة منابرهم لأنهم متمسكون بآرائهم أن يقتنعوا بأن عطاءهم نضب ولم يعد يفيد في حقبة زمنية لا تعترف إلا بالجودة في الطرح وجذب المشاهدين، فلماذا نجحنا في أعمال درامية محدودة ولم ننجح في جُلها؟ ومن أجل الأمانة فإننا نتذكر حتى اليوم أعمالا خلدت اسمها بقوة أيديولوجياتها وأطروحاتها كمسلسل "وتبقى الأرض"، وكذلك مسلسل "أيام الندم "بجزءيه الأول والثاني ومسلسل "الفاغور"، ومسلسل " ود الذيب" وغيرها التي ربما لم تحضرني في هذا المقال.. ولكونها لم تجد تسويقا على المستوى الخليجي والعربي فقد أضعفت من قيمتها على المستوى الخارجي، كون أنّ تسويق الأعمال الدرامية جدًا ضعيف، لأنّ القناعة على المستوى الداخلي ولدت عقدة النقص في إنتاج عمل متكامل تتسابق المحطات الفضائية على طرحه ضمن خريطتها البرامجيّة الرمضانية أو حتى العادية.

لقد شكّلت المسلسلات الكرتونية توجها جديدًا في منظومة الأعمال الفنيّة وأصبحت منافسًا آخر للدراما الواقعيّة التي اتّصفت بثقلها في زمن يحتاج البساطة ويتميّز بالسرعة في الأحداث والمباشرة في طرح القضايا بمعنى أنّها تكون واضحة المعالم وتمس اهتمام المواطن ورغبته في تحسين وتجويد الخدمات المقدمة له، وتسليط الضوء على القضايا التي تفتك بالمجتمع وتفقده ترابطه وتجانسه.. إلى جانب توجه الكثير من المحطات التلفزيونية إلى عرض الأعمال المدبلجة سواء التركية أو الهندية التي عصفت بخارطة المشاهد وزادت من اتساع الفجوة ووضعت الدراما المحلية في خانة النقد.

هناك الكثير من الأسباب والمسببات التي عصفت بمستوى الدراما العمانية، ولعلّ الاعتراف بها يساعد في تبني حلول قوية ترجع العلاقة بينها وبين المتابع، فعلى المسؤولين أن يفطنوا لأهمية الدراما في توجيه المجتمع وتغيير السلوكيات وقضايا أخرى تدور في كل بقعة من المجتمع من أجل الشفافية وإعادة الثقة.

همسة: لست عملا دراميا أو علاقة غرامية عابرة.. لكنك جسد ممرد من واقع ملموس.. فالقُبلة في خدك ليست تمثيلا من أجل الإقناع وإنما جاذبية وشحنات أطلقها خدك لشفاه عطشى.. فاخترفت الصمت وبددت الحيرة التي تدور في عينيك.. وقربت المسافات بين جسدين أرادا أن يلتحما من أجل الحياة... فلا داعي للقلق.

كاتب وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك