المواطنة: "الاعتراف" أم "الالتفاف"؟

د. سيف المعمري

ستظلُّ المواطنة الكلمة الأكثر حُضورا على المستوى المحلي والإقليمي؛ لأنه لا يُمكن أن يكون هناك أفق بدون تحقيقها على أرض الواقع؛ فلا يتعزَّز استقرار أي مجتمع بدون ضبط التفاعل بين أفراده وفق مرجعية واضحة تنطلق من قيمة مهمة جدا وهي "الاعتراف"، والذي أعتبره يأتي قبل قيم المواطنة الأخرى من حرية وعدالة ومساواة ومشاركة، ومن أجل العمل على تحقيق الاعتراف وليس الالتفاف على المواطنة، جاء انعقاد ندوة "قيم المواطنة وسبل تعزيزها في المجتمع العماني"، التي نظمها قسم أصول التربية بجامعة السلطان قابوس، الأسبوع الماضي؛ حيث قدِّمت مُحاضرته الافتتاحية تحت عنوان "المواطنة والمسؤولية: إشكالية المصطلح والتطبيق"، وتأتي هذه الندوة بعد مؤتمرين عُقد أولهما في الجزائر بعنوان "المواطنة والتنمية"، والآخر عُقد في لبنان تحت عنوان "التربية على المواطنة الحاضنة للتنوع الثقافي"؛ مما يشير إلى أنَّ هناك استشعارا كبيرا للحاجة "للاعتراف" بأن المواطنة هي المشكلة وهي الحل في الوقت نفسه للإشكاليات التي تعيشها المجتمعات العربية؛ فما المقصود بـ"الاعتراف" في هذا السياق، وما المقصود بـ"الالتفاف"؟

... إنَّ الاعتراف كقيمة من قيم المواطنة يُقصد بها الاعتراف بمستحقات حق المواطنة، هذه المستحقات التي لها بُعدان؛ هما: اعتراف بحق المشاركة في كل شيء له دوره وآثره الإيجابي على الوطن؛ فالمشاركة في الترشح أو التصويت للمجالس البرلمانية هي اعتراف بأهمية مشاركة الشعب في التشريع لنفسه من خلال ممثليه الذين انتخبهم، والذين يجب أن يقوموا بهذه المسؤولية والأمانة. وثانياً: اعتراف بحق تكافؤ الفرص القائم على المنافسة والجهد بدلا من أن تكون قائمة على مرجعيات أخرى لا أساس لها، تؤدي إلى تفتيت الجهود الوطنية ولا تساعد على بناء فرقة وطنية واحدة تعزف لحنا واحدا لا نشاز فيه، وثالثا: اعتراف بحق الوطن على المواطنين الذين لا يمكن أن يكونوا مواطنين دون الانتماء له، ولا يمكن أن يتمتعوا بقيمتهم وكرامتهم وهويتهم دون الحفاظ على استقراره، ولا يمكن أن يضمنوا مستقبلهم دون العمل الدؤوب من أجل رفعته؛ لأنه لا يرفع الوطن إلى المراتب العليا إلا أبناؤه الذين يعملون دون كلل أو ملل، ويتطلب تحقيق هذا الحق اعترافًا آخر أكثر أهمية وهو الاعتراف بضرورة جعل التربية من أجل المواطنة هدفا أساسيا لمختلف المؤسسات التعليمية. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، لابد من الاعتراف به على أنه ضرورة تربوية مهمة في المدرسة والجامعة، ويتطلب ذلك الاعتراف شيئا يُعتبر منطلقا للإجابة عن هذا السؤال، وهو الاعتراف بأن المواطنة ممارسة وقيمة يمكن أن تتعلم، فهل هناك اعتراف بكل تلك الأسئلة؟

... إنَّ مُؤتمر "قيم المواطنة" الذي نظَّمته كلية التربية جامعة السلطان قابوس جاء في وقته، بل إنني اعتبره حجرا حرَّك دوائر المياه الراكدة مرة أخرى، لتتسع في وقت كان يُفترض أنها تضيق بعد كل الجهود التي بذلناها في السنوات الأربع الأخيرة التي دعيت خلالها للتحدث في أكثر من مائة مؤتمر وندوة وملتقى ومحاضرة عامة في مختلف أنحاء المحافظات العمانية، وكأن كل ذلك لم يؤدِّ إلى "اعتراف" بمعنى المواطنة الحقيقي الذي يتكوَّن من أربعة عناصر؛ هي: الحقوق، والانتماء، والهوية، والمشاركة -ببعديها السياسي والمدني- وبضرورة العمل على تعزيزها من أجل بناء وعي الشباب بذلك المفهوم حتى يعملوا في ضوئه من أجل وطنهم، وكأنه لم يكن هناك "اعتراف" بكل التوصيات التي توصلت إليها كل تلك الفعاليات العلمية من أجل أن تأخذ المؤسسات التربوية بزمام المبادرة في تدريب المواطنين والأخذ بأيدهم ليكونوا مواطنين مسؤولين يدركون أن حدود المسؤولية لا تتوقف عند عتبة باب البيت، بل تمتد لأماكن متعددة من وطنهم؛ فالمسؤولية هي أداة المواطنة الرئيسية، ولا يُمكن أن تتحقق المواطنة دون تعزيز المسؤولية، ولابد من الاعتراف بأن "المسؤولية" كقيمة من قيم المواطنة في خطر على مختلف المستويات الفردية والمؤسساتية، ولا يمكن الالتفاف على هذا الواقع بل لابد من الوعي به والمضي في معالجته، وصولا إلى بناء مؤسسات مسؤولة ومواطنين مسؤولين.

... لقد طُرحت الكثير من الأوراق، ولدت كثيرًا من الأسئلة لدى الحضور، الذين يبدو أنهم لا يزالون يجدون في المواطنة -بحسب طروحاتهم- فكرة غير محددة، لا تحتاج إلى فهم أسسها النظرية وتطورها، إنما تحتاج إلى ممارسات رمزية كارتداء العلم، وتزيين السيارات به، وكتابة القصائد، وذهب بعضهم في تحديدها بأنها مرتبطة بالواجبات التي تعبر عن حب الوطن، وبالتالي لابد من "الاعتراف" بأنه رغم أهمية تلك العناصر للمواطنة إلا أنَّ هناك أبعادًا أخرى للمواطنة لابد من الاهتمام بهما؛ منها: الانتماء والمشاركة؛ لأنَّ ترسيخ الانتماء أساسا لبث الدافعية للمشاركة عند المواطنين، والمشاركة لا يجب أن تفهم من زاوية ضيقة؛ فالمشاركة تمتد من المشاركة السياسية إلى المشاركة المدنية إلى المشاركة النقابية إلى المشاركة الطلابية الاستشارية؛ وبالتالي لابد من "الاعتراف" بأن تقييم هذه الأنواع من المشاركة ضرورة ملحة اليوم للوقوف على قدرتها على العمل من أجل تعزيز جوانبها القوية والعمل على التقليل من حدة جوانبها السلبية؛ فلا يمكن أن تقوى المواطنة وتكون إيجابية دون مُواطنين يعملون في القاعدة بمسؤولية لوضع الأمور في مساراتها، ولبناء الوعي بأن المشاركة في اتخاذ القرار، والرقابة على أداء المؤسسات، وعلى كيفية صرف المال العام يعبر عن مسؤولية كبيرة جدا.

... علينا "الاعتراف" بأنَّ ما عُرض في هذا المؤتمر أظهر أننا في حاجة ماسة لتعزيز المواطنة الآن وليس غدا؛ وفق إطارين؛ الأول: يكون من أعلى؛ أي من الحكومة التي لابد أن تأخذ زمام المبادرة في استثمار كل هذه النقاشات من أجل زيادة فاعليتها في خدمة المواطنين ومراجعة القوانين وتبني السياسات والخطط الناجحة. أما الإطار الثاني، فهو الذي ينطلقُ من أسفل؛ أي من المجتمع الذي لا يزال يحتاج إلى وعي وورش في مجال المواطنة، وكيف ينتقل منها ليكون مواطنا مسؤولاً، وما يجب أن تقوم به المؤسسات التربوية المدرسية والجامعية من مساعدة الفرد ليكون مواطنا واعيا قويا، لا يمكن أن تكسره التحديات، ولا يمكن أن يتلاعب بعقله أي خطاب لا يحمل في ثناياه المصداقية والمحبة والسلام.

... إننا نسعى إلى "الاعتراف" بأنه إذا لم يحدث تدخل، فإن هناك مواطنة سلبية تتكون، تولِّد فردا ومسؤولا، يهتم بما تراه عينه، ويتدبَّر سلوكياته التي تؤثر على الوطن لسنوات طوال. إنَّ المواطنة تتطلب المقرر الذي طلبت من رئيس الجامعة أن يُدرَّس في الجامعة...وغيرها فهو ضروري لتعريف الطلاب بالحكومة وقوانينها وكيفية اتخاذها وتغييرها وبناء السياسات الحكومية، وكيفية المشاركة والتعبير عن الرأي، والحريات وحدودها...وغيرها من المواضيع التي تتطلب حوارا منهجيا في جلسة وطنية لا تهدف إلى اختبار الطلاب؛ لأنَّ المواطنة لا يمكن أن تقاس بالدرجة إنما تقاس بالمشاركة المنتجة، ولو وضع اختبار لها فإنَّ الذي يحصل على درجة عالية لا يعني أنه أفضل وطنيا من الذي حصل على درجة مُتدنية.

يبدو أنَّ حالة اكتشاف المواطنة التي يمر بها المجتمع تتطلب متابعتها عن قرب، والتدخل بشكل مُتكرر من أجل أن يكون هذا الاكتشاف مبنيًّا على حقيقة هذه المواطنة كما وضعتها الدراسات المتخصصة. إنَّ الاعتراف بذلك سيجعلنا نساعد الآخرين لأن يكونوا مواطنين مسؤولين، ويظل السؤال: هل سنمضي لتدعيم حق الاعتراف، أو سنظل نمارس فعل الالتفاف؟

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك