فقه القبيلة العربية

نائب ربيع بيت مبروك

يقول الخالق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير"، ويقول رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "كلكم بنوا آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان".. هذه هي الأسس والتربية التي يقوم عليها المجتمع والبناء الإسلامي والذي تحاول البشرية أن تلحق بركبه وتحلق في فضائه وتسمو إلى لون من ألوانه وطيف من أطيافه العظيمة، والإيمان حقيقة لا يدخلها شك ولا تنتابها الريبة، وإنما هو ثبات على الحق وطمأنينة ويقين. والصراع في واقع الحياة يتمثل بين المؤمن الذي لا يتزعزع إيمانه بالله سبحانه وتعالى، وبين من يخالفه ولم يتذوق مذاق الطمأنينة ولم يطمئن قلبه بالإيمان، وكان ينبغي على الأمة الإسلامية أن تستمر في جهادها والدفاع عن هويتها وعقيدتها؛ ليراها من يراها أن ثباتها على الحق كان الدافع وراؤه هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأن الأمة الإسلامية هي النموذج والنبراس الذي يقود البشرية كلها إلى طريق الخير والصراط المستقيم، إلا أن فقه القبيلة بقي شكلا من أشكال الحياة المعقدة ذات الصبغة الملونة القاتمة، والتي تمتد جذورها إلى زمن الجاهلية العظمى.. لقد حاول الإسلام أن يُهذِّب معالمها ومظاهرها ويخرجها من بواطن الجهل وبراثن التخلف ونزيف الأمية، وينهض بها إلى عالم الضياء والنور، ويبنى لها أسسًا جديدة وقواعد ذات منهج وسلوك وقيم وعقيدة تقودها إلى عالمية الإسلام وحضارة الأمم، لكنَّ الرواسب العميقة وكثيرا من العادات والتقاليد التي دخل بها أصحاب فقه القبيلة إلى الإسلام لم تكن لتقضي على ذلك الفقه الراسخ في تلك النفوس الشامخة وبقاياها العتيدة والتراكمات التي ترسَّخت وتأصلت جذورها زمن الجاهلية، والتي كانت قد فتكت بالجسد المتهالك، والدواء الذي جاء به الإسلام ما كان بمقدوره أن يُعالج مثل تلك الجراح الثقيلة، ويقضى على الرواسب والموروث الجاهلي دفعة واحدة، إذ لا تزال للوثنية بقية من بقايا الجاهلية تعج وتترنح بها تلك النفوس التي لا يزال بها شيء من الضعف الروحي والعجز الحسي، وأهداف هذا الدين مع كل ما فيه من صراحة وحقيقة وصدق ووضوح وبينة، إلا أنَّ فقه الجاهلية احتفظ في حقيبة من حقائبه التراثية بشيء من الموروث الجاهلي بين عادات وتقاليد وأعراف بدتْ مع مرور الزمن وكأنها تتغطى بثوب من ثياب الإسلام لتضفي على ذلك الثوب شرعية لا صلة لها بالعقيدة الإسلامية. ولعلَّ الإمام علي -عليه السلام- قد أدرك بحسه وفطنته ما يحدث وما يصطدم مع تعاليم الإسلام؛ فحاول أن يُؤطر شيئًا من نبذ الارتكان إلى الحسب والنسب ليعطي أولوية للأدب وتعزيز الذات لا لتقديس القبيلة بقوله: "كن ابن من شئت واكتسب أدبا، يغنيك محموده عن النسب"، إلا أنَّ هذه الدعوة لم تجد آذانا صاغية إلى يومنا هذا، ولكي يتَّضح ملامح هذا الفقه لابد من شرح ولو جزء يسير عن هذا الفقه الشاذ حضاريا ومدنيا وإسلاميا، والذي يمثل المفهوم العميق لإستراتيجية وفلسفة وبرنامج الفقه القبلي ونزعته الخطيرة، والقبلية تعنى العصبية الشديدة، وهي الانتماء والارتباط والإخلاص للقبيلة، وهي القوة التي تدافع عن قيم ومبادئ القبيلة وكيانها، والرباط والارتباط الذي يربط جماعة كل قبيلة، لا شيء سوى العصبية الحادة، ولأنهم أهل وأقارب وأبناء عم وما يأتي من أحفادهم وأخوالهم وأبناء عمومتهم وأجدادهم، الشيء الذي يُعزِّز من رفعة الاسم والمجد والظهور الذي يتباهى ويفتخر به أفراد كل قبيلة هو شرف الحسب والنسب؛ ذلك الشرف الكبير الذي يتمتع به رأس القبيلة (الشيخ) وهو أحد أفراد القبيلة الكبار، وإذا كان لهذا الشيخ شيء من السيطرة أو النفوذ؛ فذلك لأنه يشكل جانبا مهما فيها، ألا وهو المرجعية، ولاشك أنَّ هذه المرجعية سوف يعود لها الفضل في تحفيز النفوس وتأجيج الإرادات وتوريث مبادئ وقيم ومعاني فقه القبلية الذي تتوارثه الأجيال جيلًا بعد جيل مما يُمكنها من الاستمرار والمحافظة على موروث وعادات وتقاليد القبيلة الذي يُثمر في نهاية المطاف ديمومة العصبية والحفاظ على الموروث القبلي؛ وذلك هو الهدف الذي تنشده تلك المرجعية وفقهها وإذا ما طرحنا هذا السؤال وقلنا: إلى أين تقودنا هذه العصبية، وذلك الانفعال؟ وماذا أنتجت؟ وماذا أفرزت؟ وماذا قدمت؟ وماذا ستقدم في عالم اليوم، عالم المدنية المتطور، عالم تتمدَّد فيه العلوم والمعارف، وتتعدَّد فيه الصناعات، وتتنوع فيه الاختراعات.. عالم يبتكر، عالم يصنع، عالم يخترع، عالم حديث مُتطور جدًّا، عالم لا يؤمن إلا بالعلم والحرية والمساواة، عالم يقبل ويتقبل ثورة العقل، ونهضة الفكر، عالم يؤمن بوجود الإنسان ويرفض مبادئ التخلف والجهل، وينسف كل عظمة وكبرياء للأمية والغطرسة، بينما القبيلة أو القبلية لم تستطع أن تعالج جوانب عديدة من النزاعات التي تهب كالريح أحيانا تكاد أن تعصف بكل ما هو حسن وجميل وإذا كنت أتحدث هنا عن فقه القبيلة، فإنني لا أتحامل عليها أبدا، وإنما أتحدث عن أسلوب وآليات التفكير العصبي الذي تجسده تلك الذهنية والمفاهيم وقابلية الاستمرار الذي قد يؤدى إلى عواقب وخيمة وربما كوارث؛ لذلك إذا ما تجدَّد وتطوَّر مفهوم العادات والتقاليد وفقه القبيلة، وتحول كل ذلك المفهوم إلى مشاركة وتعاون اجتماعي نبيل بعيدا عن أي حساسية أو عصبية أو نظرة طبقية، وآمن كل طرف من الأطراف الاجتماعية بقضية الآخر، وكانت لدى الجميع قابلية الانفتاح في أكثر القضايا خصوصية، وأكثرها تعقيدا وبعيدة كل البعد عن تقديس فقه القبيلة؛ فلا شكَّ أنَّ ذلك سوف يأتي بجيل جديد وعالم أكثر نقاوة وصفاء ذهنيا وثقة بنفسه يؤمن كل الإيمان بمستقبله وبمبادئ ومعطيات الانفتاح والتجديد، رافضا كل الرفض العيش في مجتمع يعج بالجهل والتخلف؛ لنأخذ مثلا اليابان؛ هذه الدولة الصناعية العظيمة لم تتخلَّ يوما من الأيام عن عاداتها وتقاليدها، ولكنها آمنت بالحضارة وآمنت بالعلم؛ فتقدمت وتطوَّرت وهزمتْ المعتقد السلبي والتخلف والجهل وكان لها ما أرادت، لقد تخلت عن جانب كبير من جوانب الفهم الخاطئ للموروث السيئ، وتخلت عن منظومة الفكر الشاذ لبعض الأعراف فنجحت في استئصال البذور السامة ومخلفات المعتقدات والعادات السيئة، التي لربما لو احتفظت بها وأبقت عليها لجعلت اليابان نفسها خارج كوكب الحضارة العالمي، إنها منظومة قيم علمية ومنظومة قيم اجتماعية جديدة متطورة إذا ما ذابت في وهجها أي شخصية حققت ما تريد، هذه هي شخصية العصر الحديث، وهذا هو إنسانها، وتلك هي مشاريعه، وهذا هو عنوانه وبطاقة هويته الجديدة وجواز سفره المتجدد والمتطور.. إنه إنسان خاص بعقله، إنسان خاص بفكره، مبدع بثقافته ورؤيته وتواجده، وهذا النوع من الشخصيات يدرك أنَّ كل تقدم وكل علم وكل حضارة وكل وعي، لا يأتي من فراغ، وأنه لابد من ذهنية متطورة جدا وعقلية منفتحة جدا ومحترفة، تضع في حساباتها مطاردة الكبار واللحاق بركب التقدم والحضارة والاختلاط والانفتاح على العالم وماذا يوجد لديه وماذا يوجد لديها وفى النهاية، دون أن تطوى صفحة الفقه القبلي وكتاب فقه القبيلة، وأخذ كل ما هو جيد وترك كل ما هو رديء، وقراءة وأخذ كل ما هو مهم ومفيد، يصبح مستقبل الأجيال القادمة في خطر كما نراه ونشاهده أمامنا وتقلبات الأزمان والقبول بتلك الصفحات؛ وذلك الفقه الكلاسيكي القديم يعطينا مدى المعاناة والتخلف الذي تعاني منه الإنسانية والإنسان، وكيف يحتفل ويحتفي بفقه القبيلة وكأنه لا خيار للإنسان إلا خيارها ولا فكر ولا ثقافة ولا علم ولا معرفة بدونها، وماذا بعد؟ ليس بعد ذلك إلا أن تبقى هذه المجتمعات مجهولة الهوية لا تقيم وزنا ولا معادلة لحضارة العلم والمعرفة، ولا تحمل أيَّ جين من جينات الصفات والمواصفات والمورثات العالمية حبيسة الموروث وعظمة الخيال القبلي، الذي انتهت صلاحيته، وذابت في التقدم والعلم هويته، وليس لها إلا العيش في العزلة والانطواء دون أن يكون لها حظ أو نصيب في قادم أيامها فالزمن لن يأبه لها، والحضارة لن تهتم بأمثالها، والمستقبل سوف يرفضها رفضا ويركلها ركلا ثم يلقى بها بعيدا خارج ثورة التقدم والنماء والتكنولوجيا، فوا أسفاه كيف يستمر مثل هذا الفقه العجيب وذلك الحال الغريب والقبول بكل ذلك الفقه؟! كيف تم؟! وكيف استمر؟! وكيف عاش؟! وكيف انتصر على كل البرامج العلمية والحضارية والثقافية؟! كيف؟! لا أدرى، مع أنَّ الانفتاح يستوعب الجميع ويقبل كل الأذواق ومساحته تتسع للحوار والنقاش، فيا ليت هذا الفقه يدفن كل تلك التناقضات والمتناقضات، ويطوى صفحة النزاعات والعصبيات والازدواجيات التي لا معنى لها ولا طائل من ورائها سوى المزيد من الفشل والإخفاق، بينما قطار الحضارة ينطلق نحو آفاق الحياة والمدنية الحديثة والمستقبل؛ حيث لا مكان فيه ولا حياة إلا للتحرر من كل شوائب الجهل والتخلف، وكيفما كانت سلطة القبيلة وجبروتها وكيفما تعددت وتنوعت مصادرها، فإنها لم ولن تستطيع وقف وزحف التمدد الحضاري والتطور الذي سوف يرغمها على القبول به وسوف تخضع لأطواره؛ لأنه هو الشيء الجديد المتجدد، وما سواه هو ارتداد وعودة للماضي القديم، وما نراه وما نشاهده وكل ما يحدث من كوارث إنسانية ومجتمعية وإخفاق وإحباط ونزاعات بسبب ومن غير سبب، ما كانت لتكون لولا حضانة مثل ذلك الفقه وتفريخ بؤره التي تتمدد ومساحة الحضانة الواسعة التي هيأت له كافة الأجواء وحلقت به في كل الساحات، وكفلت له الرعاية والعناية ووفرت له الحماية، تغذيه وتنميه بكافة الطرق والوسائل والفيتامينات المطلوبة كاملة الدسم وختاما أتمنى من جميع مرجعيات الفقه القبلي، أن تفكر خارج نطاق القبيلة لبناء جسور عظيمة مع كافة أطياف المجتمع وتنقية المفاهيم الخاطئة تلك من جاهليتها لتصبح أكثر إنسانية وأكثر حيوية وأكثر قدرة على مواجهة اليوم والغد والحاضر والمستقبل ومواكبة عصر البقاء للإنسان الأكثر قدرة على التعامل مع أدواته ومعطياته، ولنا في هذه الأبيات الشعرية العربية الجميلة لسيدنا الإمام علي عليه السلام قوله: "كن ابن من شئت، واكتب أدبا، يغنيك محموده عن النسب؛ فليس يغنى الحسيب نسبته، بلا لسان له ولا أدب.. إنَّ الفتى من يقول ها أنا ذا، ليس الفتى من قال كان أبى".

تعليق عبر الفيس بوك