تحرير الإنسان

عهود الأشخرية

من أصعب المهام التي تواجه الإنسان بشكل خاص في فكره هي التحرر من المعتقدات القديمة والتي لا تنم إلا عن جهل؛ ذلك لأنّ العالم لا يُمكن أن يسير بفكر أولئك الذين لم يعرفوا المكتبات ولا تجارب حقيقية لهم في صراعات العقل والمنطق. لقد نشأنا على أفكار أهلنا وليس على أفكارنا، ومتى بدأنا نستقل بفكرنا الخاص يكون لنا الحق في ما نسميه "الحرية"؛ لأننا لا يمكن أن نستقل بأفكار ليست لنا حتى ولو كنا نؤمن بها إيمانًا مطلقًا. بين تحولات الزمن يجب أن يكبر فينا شيء ما، وهذا الشيء تقوده "الفكرة" التي تعد متطلبا رئيسيا للاستقلال أو الإيمان بالحرية، والحرية في الأساس ليست فقط في استقلالك عن أفكار الآخرين بل أن تصعد إلى ما هو أبعد من ذلك بكونك ترتقي إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث ‏يقول (إيكهارت تول): "ما أسهل أن يكون الناس محصورين في سجن معتقداتهم وأفكارهم".

وإن كان الحديث هنا عن التحرر فكرًا فوجب التحدث عن الفيلسوف الهندي (جِدّو كريشنامورتي) والذي لن أطيل في التحدث عن سيرته لأن هذا الأمر لا يهمنا الآن، لكن من الضروري معرفة أن السيدة آني بيزانت تبنته، وهي رئيسة الجمعية الثيوصوفية التي احتفت به في شبابه بوصفه مسيحًا جديدًا، وبعد ذلك ترك هذه المهمة وذهب إلى الهدف الذي حسب نفسه وُجد لأجله وهو تحرير الإنسان تحريرًا مطلقًا غير مشروط -من القيود والاشتراطات-، تحريره فكرًا وإدراكًا؛ بما فيها القيود التي يفرضها الدين والاتكال على المرجعيات الدينية والروحية المختلفة، فجاب العالم، متكلما في أوروبا والهند وأستراليا والأمريكتين، حتى قبيل وفاته بأسابيع قليلة، كما أنّه اشتغل على حصيلة المعرفة الخاصة به فكانت له محاضرات وكتابات ومحاورات كثيرة ترجمت إلى أكثر من 50 لغة، وكانت مجملها تتناول قضايا إنسانية تدعو إلى تحرير الإنسان من الجانب العقلي والنفسي، وتحقيق الإشراق الروحي والتوازن.

بدأ (جِدّو كريشنامورتي) بالاشتغال على الإنسان كطبيعة وكيان؛ وذلك بأنّه عمل على إزالة الأنا الوهمية الفاصلة بين أنا الإنسان وبين ما هو حقيقي فيه حيث إن (كريشنامورتي) كان يحاول عن طريق محاضراته تقليص هذا الحجاب الذي فصل الإنسان عن حقيقة وجوده ويثق أنه ولد ليكون متحررا بفكره لا ببقايا أفكار الآخرين التي تتناقلها الأجيال، (تشومسكي) يقول: ‏"عليك أن تُوجّه آمالك نحو ما تؤمن به.. وأنا أحب أن أؤمن أنّ الناس قد وُلدوا أحرارًا".

وأما من ناحية نفسية فقد كان (جِدّو كريشنامورتي) يريد تحرير الإنسان لعدة أسباب، فكان يريد له أن يكون كائنا متوازنا مع نفسه، لا يطغى جانب الشر فيه بقدر ما يرتفع فيه جانب الخير، وركز هنا على علاقة الإنسان بالطبيعة وكيفيه تناغمه معها، حيث إنّ هذه البيئة التي نعيش عليها تحدث لها تغيرات جذرية سيئة بسبب الإنسان، فلا خلاص لها إلا بالإنسان وحده، كما أن (جِدّو) ينوه هنا على أن الحياة هي المعلم الأول، وبحسب رأيه أيضًا أن الإنسان إذا تحرر نفسيًا سيكون متوافقا مع كيانه بصورة أكبر.

وإذا جئنا نركز على صعيد العلاقات، فقد تحدث (جدّو) عن الحب بصورة شاسعة جدًا وحلل هذه العلاقة تحليلا منطقيا وواضحاً حيث يقول: "فعليًا نحن لا نعرف الحب، وإنما نحن عاطفيون، حسِّيون، انفعاليون وجنسيون، لدينا ذكريات لشيء نعتقد أنه حب ولكن فعليًا وبقسوة، نحن لا نعرف الحب، لأنّه أن تعرف الحب يعني لا عنف ولا خوف ولا تنافس ولا طموح"، و ‏"أن تحب هو ألا تطلب شيئًا في المقابل. ألا تشعر حتى بأنك تعطي شيئًا. ووحدها محبة كهذه تستطيع أن تعرف الحرية". فحتى على صعيد العلاقات الخاصة كان يدعو للحرية أو الاستقلال من الآخر؛ حيث إنه لا حبّ إذا وُجد الهدف أو الغاية النهائية من هذا الحب، وكذلك إذا كان هناك مفهوم للأخذ والعطاء وكمية التضحيات التي قد يقدمها الشخص للآخر. فبذلك يقدم (جدّو) مفهوما فريدا للحب يدعو به لتحرير الإنسان من طبيعة العلاقة السائدة مع الآخر.

وتحدث أيضًا هذا العظيم عن قدرة الثائرين على اكتشاف ذواتهم لوحدهم دون تدخل الآخر فيقول في ذلك "‏أولئك الثائرون دوماً وحدهم يكتشفون ما هو حقيقي، وليس المرء الذي يمتثل أو يتبع تقليداً ما"، برأيي أن هذا بسبب أن الإنسان هنا يواجه نفسه بنفسه ومن خلال الشجاعة التي يقوم بها، فهي في الأساس تكون ضد نفسه أولا، ثم أخيرا ضد من ثار عليهم. وبهذه المجالات وغيرها سعى (جدّو) دائما إلى توسيع الدراسات حول الإنسان كي يستطيع معرفة نفسه بشكل أكبر وأعمق.

إن هذه الدعوة لتحرير الإنسان لن تكتمل إلا بمعايير كثيرة وأسس لابدّ للإنسان أن يكون لديه وعي كافي لكي لا ينجرّ خلف الآخر ولا يتبع الفكرة الجاهزة؛ بل يحاول أن ينشئ فكرته الخاصة حتى ولو كانت لا ترضي الآخر. الأهم في كل هذا أن توصل صاحبها إلى درجة القناعة بنفسه ويمكنها بعد ذلك أن تتطور أكثر بكمية التجارب والمعرفة.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك