عمال البناء والنظافة.. حرارة الشمس لا تسلبهم ابتسامة الرضا والقدرة على الصبر والتحمل

رَصَدتْ التجربة - مدرين المكتوميَّة - عهود المقباليَّة

في طريقي إلى الكلية ذهابا وإيابا، أرى كغيري عمَّال الحفر والبناء يعملون في الطرق منذ الصباح الباكر وحتى قبيل غروب الشمس؛ في ظلِّ ارتفاع درجات الحرارة غير المحتملة في الأماكن المكشوفة.. أبلغني بعضُهم أنَّ لهم وقتَ راحة قصيرًا نسبيًّا عند الظهيرة، لكنَّهم في الوقت نفسه لا يُمكنهم الذهاب إلى مكان آخر ليتمكَّنوا من قَضَاء وَقْت راحتهم في ظروف جويَّة أفضل؛ مما يضَّطرهم إلى البقاء في موقع العمل تحت ظلِّ أي شجرة أو بناية، قبل أن يبدأوا العمل من جديد.

ابتسامة تهزم المعاناة

ومن بَيْن هؤلاء، لفت انتباهي أحدهم؛ لا يكترثُ لحرارة الجوِّ في وقت راحته، يُقدِّم الطعام لزملائه مُبتسما.. ناديته فأقبل وألقى السلام، وحين سألته عن ظُروف عمله القاسية في الجو الحار، لم يُبادر يُونس خان بالشكوى، وإنما حافظ على ابتسامته التي تكشفُ عن رِضَا في نفسه، رغم أنه لا يتقاضى أكثر من 80 ريالا بحسب قوله. يُؤكد أنَّه لا يُتقن مهنة أخرى غير أعمال البناء، ويُعبِّر عن فرحته بينما يرى العمارة التي يُشارك فيها تعلو يومًا بعد آخر بفضل مجهوده ومثابرة زملائه، لكنه لا ينفي رغبته في تحسين وضعه المادي كأي إنسان يطمح دائما للأفضل.. متمنيا أن يستطيع إحضار أسرته الصغيرة إلى السلطنة؛ ليطمئن عليهم في أرض السلام، لكنه يُدرك أنَّ الإجراءات صعبة في ظلِّ تدني راتبه الشهري الذي لا يتوافق مع الشروط أقرَّتها الجهات المعنية مؤخرًا للسماح باستقدام الأسرة.

ويقول يونس خان إنه يعمل في البناء من الصباح الباكر وحتى الغروب، ويتخلل ساعات عمله وقت راحة يقضيه بينما الإرهاق يبدو على عينيه، والغبار يكسو وجهه، وملابسه مُتسخة، ورغم ذلك لا يتحدَّث إلا مُبتسما، وهي ابتسامة تدفع كلَّ من لا يشعر بما أنعم الله عليه من مال وصحة وراحة بالخجل، بينما هو يرى هؤلاء العمَّال الكادحين لا يتقاضون إلا القليل ولا يعملون إلا تحت أشعة الشمس الحارقة، ولا يتخلون عن الابتسام وحمد لله، تماما كما يقول مُدرِّبو التنمية البشرية في مُحاضراتهم وكتبهم: "كنت أشعر بالإحباط لأنني لا أمتلك حذاء، حتى قابلت من لا يملك قدمين".

سعادة أسرتي أولوية

سندران -عامل نظافة- لا يمل من الانحناء لالتقاط ما يرميه المارة في الشارع من أوراق ومخلفات؛ ليترك لنا الطريق من خلفه نظيفا جميلا. تساعده عصاه المجهزة لتلك المهمة، إلا فيما زاد عن قدرتها على الالتقاط. يقضى يومه تحت حرارة الشمس بينما من يرمون المهملات جالسون في سياراتهم الفارهة لا يبالون بما يخلفونه من إرهاق للعامل وزملائه. لاحظ أن عينيَّ ترقبانه من بعيد فاقترب، وبعد "السلام عليكم"، أجابني على استفساري بقوله: أمارس هذا العمل منذ 5 سنوات، وأبدأ يومي في الخامسة فجرا وحتى الثانية ظهرا، ولا أبالي كثيرا بحرارة الشمس والعمل في الأماكن المكشوفة، طالما أتمكن من أن أجلب لأسرتي راتبا يكفي احتياجاتها اليومية، وأحرص على عدم إبلاغهم بطبيعة عملي وما ألاقيه من عناء وإرهاق بسبب انحناء ظهري باستمرار، وعملي تحت أشعة الشمس الملتهبة؛ حتى لا يتألمون لأجلي، يكفيني أن يكونوا سعداء ويعيشوا حياة كريمة، وأني لا أضطر في سبيل ذلك إلى ارتكاب أي ممارسات غير قانونية.

ويقول سندران: ما يُؤلمني أكثر من حرارة الشمس وانحناءة ظهري طريقة تعامل البعض ونظرتهم المتدنية لمهنتي، حتى إنهم يتعمَّدون إلقاء القمامة على بُعد أمتار مني، ثم يُنادونني لالتقاطها في سلتي، وللأسف أظن أنهم ينادونني من أجل إعطائي صدقة، حتى أفاجأ بأنهم يريدونني أن أنظف محيط سياراتهم وألتقط ما رموه بأيديهم. وبحكم غربته عن أسرته، يقول سندران إنَّ عمله يُصبح ثقيلا على نفسه حين يعلم أنَّ أحد أطفاله مريض، أو أن أحد أفراد الأسرة أصابه مكروه، حينها يشعُر بالعجز عن تقديم المساعدة؛ نظرا لأنه غير قادر على استقدام أسرته بحكم ظروف عمله.

"السائبة" تكسب أكثر

وأثناء جولتنا لرصد أحوال العمالة الوافدة في الطرق العامة، لاحظنا أنَّ العمالة السائبة أيضا لها نصيب من المعاناة تحت أشعة الشمس، لكنهم أقدر من غيرهم على تنويع مصادر دخلهم وزيادتها؛ حيث يُمكنهم العمل في تنظيف السيارات بالطرق الجانبية وتنظيف المنازل والعمل في الحدائق، بدلا من الالتزام بالعمل مع صاحب عمل واحد بأجر مُحدَّد.

تحدَّثت مع واحد ممن يعملون في تنظيف السيارات، عرفت أنَّ اسمه نور، وأكد أنه يعمل في تنظيف السيارات على مدار ساعات اليوم، ويتقاضى عن كل سيارة ينظفها 6 ريالات شهريا، وأنَّ عدد السيارات التي ينظفها قد يزيد على 3 سيارة شهريا، مقابل أن يدفع للكفيل 20 ريالا منها، وبعد أنْ طلبت منه التقاط صورة صحفية رفض وهرب من أمامي مسرعا ظنًّا منه أننا تابعون للتحريات الشرطية؛ فما كان مني إلا أنْ تعالت ضحكاتي بشكل هستيري لما حدث؛ فالأمر غير معقول وشيء غير متوقع أن يهرب أحدهم خوفا منا.

تعليق عبر الفيس بوك