نقد الحال الراهن (5) التمويه

د. صالح الفهدي

جلست إلى جانب رجل في إحدى المضايف فسمعت منه حكايات عن علم معين لا يصدّقها ذو عقل، فقد بلغت من التهويل والشطط في تلك الشخصية ما لم تبلغه شخصية إنسانيّة غيرها لا في الأنبياء ولا من دونهم..! حتى بدت لي تلك الشخصية على مقامها الديني والتاريخي أسطوريّة من الأساطير الإغريقية لما حيك حولها من هالات تفخيم ومغالاة..!

يجتمع علماء المسلمين لتقريب المذاهب، وهذا أمر حميد تحتاج إليه الأمّة، لكنّي أتمنى أن تكون لدى العلماء الجرأة للدعوة إلى تنقية المذاهب مما يعلق بها مما يتجنّى على الدّين، بل ويشوّه سمعته، ويحرّف أصوله وقواعده..!

أقول تنقية المذاهب من التراث الزاخر بما لا يتواءم مع أصول العقيدة، وحكمة التشريع، وروح الإسلام لأنه تراث ضيّع أوقات الأمّة فيما لا ينفعها في مستقبل العصر الحديث؛ عصر العلم والابتكارات والاختراعات والمنافسات المحتدمة. في الوقت الذي تكرّس فيها الحكايات الخيالية في ذهنية بعض أتباع المذاهب من أجل تكريس التبعية المذهبية، بعيدا عن تحرير العقل من أقاصيص لا تعينه على التفكير المستقبلي، ولا تدفعه قدما ليصنع غدا مشرقا لأنّه مكبّل بالقيود الماضويّة الثقيلة..!

تنقية المذاهب من الفتاوى الغريبة التي هي أبعد من الإجتهاد الصادق وأقرب إلى طلب الشهرة لغرابتها لأن العقل لا يعمل فيها، ولا يتم تدبّرها ولا إثارة النقاش حولها من قبل المختصّين في علوم أصول الفقه ذوي العقليات غير المنغلقة على الموروث، وغير المتعصّبة لغير كتاب الله والسنة القطعية لرسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام.

هذه الفتاوي لم تمت في بطون الكتب بموت أصحابها وإنّما أضحت مناهج تحريف للإسلام، وتشويه لروحه السمحة، لأنّها تخرج من شاءت من الإسلام، وتمجّد من شاءت، تلعن ذاك، وتكيل الثناء لذاك..! ثم تزعم أنها تعيد الإسلام إلى جادّة الصواب، وإلى وجهة المحراب، بقطع الأوداج، وجزّ الرقاب..! فتاوي فرّخت جيلا عنيفا يمارس الساديّة باسم الإسلام، يحرق البشر ويقطع أعناقهم بكلمة "الله أكبر"..!

يقول الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في "إعلام الموقعين"[1] عن فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد": هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة ما لا سبيل إليه، يعلم أنّ الشريعة الباهرة التي هي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل"[2].

تنقية المذاهب من المماحكات التاريخية، والسجالات المتوارثة التي لا حلّ فيها سوى أن يقود صوت العقل، وتسمو روح الدّين، وتعلو كلمة الله.. فما ذنب أرواح تباد، وأجيال تفنى لتاريخ ولّى ورجال قضوا لله أمرهم، وبيده مآلهم، يحكم فيهم ما يشاء، ويحاسبهم على ما أراد؟! ما ذنب الأمّة كي تبتلع الطعم، فيصدح صغارها بالأحقاد، ويصرّح كبارها بالعداوات..؟! أوَ لم يكن أجدى بالعلماء أن يحرروا عقول الناشئة من التراث الثقيل الذي يثقل الكواهل، ويحوز الشواغل مما ليس فيه من جدوى..؟!

تنقية المذاهب مما ألحق بها من تحريض للعنف، وحثّ على الفتنة، واستحثاث على الفرقة، ومخالفة للا جتماع والوحدة، وتمويه للعقلية، وإخضاع للنفوس لطائفة أو لفئة، أو لجماعة، أو لحركة.

تنقيتها من الأحاديث المفتراة المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم لتخدم أهواء قوم ابتدعوها، وأرادوا بها تغليب البرهان بالبهتان منها ما وردني منذ سنوات عن حديث مكذوب عن وصايا النبي الأكرم لابنته فاطمة وفيه من الأضاليل ما يجعل مصير المرأة معقود بسخط أو رضا الرجل عنها، لأنّ من ابتدعها مرضى القلوب..! وليس ببعيد أن تبتدع في مجتمعات ينتصر فيها الذكور لسلطتها لا لمنهج الدّين، هذه المجتمعات "كثيرًا ما نظرت إلى المرأة على أنّها دون الرجل قدرًا وعقلا ومكانة، وأنّ الرجل أفضل منها، فهي خلقت لمتعته وخدمته وطاعته، ولا بد من تقويمها وتأديبها، والضرب على يديها، وإلا فسدت وأفسدت"[3]

وفي التراث الفقهي ما فيه من مثل هذا فقد أورد ابن قدامة في كتابه "المغني" مقولة للإمام الزهري: "لا يقتل الرجل في امرأته لأنه ملكها بعقد النكاح"، ونقرأ لابن علي الجوزي في "أحكام النساء": "وينبغي للمرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج.. وينبغي لها الصبر على أذاه كما يصبر المملوك"[4]،

أمم في عوالم الغرب يفرّقها تاريخ دموي، وتمزّقها عداوات أفرزت حروبا عالمية كبرى، تغلّبت على غلوائها وضغائنها فتوحدّت اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، فأصبحت قوة لا يرام لها، ولا ينال منها، في حين فإنّ الأمّة الإسلامية ذات الدين المشترك، والتاريخ المشترك لم تستجب لأمر ربها لها:"واعْتصموا بحبْل اللّه جميعًا ولا تفرّقوا"(آل عمران/103)، ونصحه سبحانه للمسلمين" ولا تنازعوا فتفْشلوا وتذْهب ريحكمْ" (الأنفال/46) وهذا كان حالها: يقتل فيها الأخ أخيه، ويأخذ هذا ابن عمّه بجريرة غيره، ويغلظ هذا المنتمى إلى المذهب الفلاني العداوة للمنتمى الآخر، وقد نسي الاثنان أنّ ما يجمعهما كلمة التوحيد، والقبلة، والأركان، والتحيّة..!

نسوه لأن القلوب موغرة بالحقد، ومملوءة بالبغضاء، ومشحونة بالخصومة وممن؟ من بعض من يتّسمون بالعلماء الذين يحسبون أنّهم أهل التصويب وهم في الحقيقة دعاة الفتنة، وللتفرقة والانتقام والشقاق..! ومع ذلك تجدهم في مؤتمر التسامح الديني، والتقارب المذهبي يتصدّرون المنابر..! بينما الضحايا من الشباب في ميادين القتال يقتّل بعضهم بعضًا، يناصر هذا ذاك، ثم ما يلبث أن ينقلب عليه فيصبح حبيب الأمس عدو اليوم، حتى من راجع نفسه في أوساط هذه الفئات المنحرفة عن الدّين وكان لها مرشدًا ودليلا حاصروه، وزعموا أنّه يخون الله ورسوله..!

إنّ الإشكاليّة العميقة هنا تقع في أنّ بعض كتب التراث تشكّل مرجعيّات لبعض الجماعات فتستقي منها فكرها لأنّ النظرة العامة نحو التراث الفقهي هي نظرة التسليم بالصحّة والمصداقية في الغالب وليس التمحيص والتدقيق والتنقيح. هذا الأمر يستدعي وجود فئة مستنيرة في كل مذهب، ذات عقليات منفتحة، لا تقع تحت سلطة التراث ولا تخضع للمسلمات لتنقح هذا التراث مما لا يشاكل صحيح الدّين، ونقاء العقيدة، وحكمة التشريع. لقد وقعت بعض الدول نفسها في فخاخ الجماعات التي أنشأتها فأصبحت هي نفسها في مرماها:

أعلّمه الرماية كل يوم.. فلمّا اشتدّ ساعده رماني

إنّ تنقية المذاهب من قبل متخصصين، مستنيري الفكر، منفتحي النظرات، همّهم جمع الأمّة على ما يشدّ من أزرها، ويوحّد كلمتها، ويوثق رباطها، فإن لم تعمد القيادات السياسية إلى تسييس الدّين وجعله أداة سياسية، وليس منهج حياة ربّاني يصلح كيان المجتمع، تشوّه الدين، وضعف في النفوس، فصار يحبل بالأضاليل، ويحفل بالتخرّصات بحسب ما تمليه المصالح الفئوية أو الطائفية أو الجهوية لا بحسب ما أمر الله به ونهى عنه. حينها تدفع الأمّة بأكملها ثمنا باهظا جراء تشويه الدّين وتمويه أتباعه..!



[1]جزء3، ص337.

[2]القاضي أحمد عبد الله المصطفى، السراج الإلكترونيhttp://essirage.net/

[3]من ورقة ألقتها الدكتورة سهيلة زين العابدين في ورقتها التي ألقتها في مؤتمر اتحاد العلماء المسلمين، الشرق الأوسط، مقال بعنوان "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوصي بتنقية التراث الفقهي من خطابات «هضم حقوق المرأة»، الجمعـة 26 رمضـان 1432 هـ 26 اغسطس 2011 العدد 11959

[4]المصدر أعلاه.

تعليق عبر الفيس بوك