الحجي: التقليد الأعمى يلغي العقل ويجعل المقلد أسير أفكار الآخرين وإن كانت خاطئة

◄ الفكر الناصع ينعكس إيجابا على حياة الفرد.. وتلوُّثه يحيد به عن الطريق المستقيم

 

 

قال الكاتب والباحث عبدالله الحجي: إنَّ الطاقة العقلية نعمة تستوجب الشكر، وشكرها يكون بإعمال العقل فيما فيه خير وصلاح الفرد، وبما يعود عليه وعلى مجتمعه ودينه بالخير العميم، ويصرف عنه كل شر سقيم. وأضاف: إنَّ العقل مُستودع الأفكار، ومكمن التفكير الذي تخرج من رَحِمِه تلك الموجِّهات التي توجِّه سير حياة المرء وهو آلة للتفكير، متى ما أجاد الإنسان استخدامها أخذته إلى شاطئ البر والأمان؛ فيحس من أعماق نفسه بأنه يسير في الحياة وفق ضوابط محددة، وعلى خُطى سديدة، بفعل الفكر الذي يدله على الطريق القويم والمنهج المستقيم؛ لذا سُمِّي العقل عقلا؛ لأنه يعقل، ويحبس صاحبه عن التورط والانزلاق في هاوية المهالك.

واستطرد الحجي: إنَّ القرآن الكريم مكتنز بالآي التي تدعو إلى إعمال العقل، والتفكر في الأمور، وإلى التبصُّر والتدبر والاعتبار، وكل هذه الأفعال مناط بها العقل للقيام بها.. قال تعالى: "كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ"، وقال جلَّ سبحانه: "قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا...".

 

 

الرُّؤية- مالك الهدابي

 

وتابع الحجي: لقد مَدَح الله تعالى أولي الألباب والأبصار؛ لانتهاجهم النهج السوي في إعمال العقل، وعدم تعطيل وظائفه في واقعهم المعاش؛ فاستخدموه في التفكير خير استخدام؛ مما جعلهم يَشْرُفُون بمدح الواحد العلَّام، قال عز من قائل: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ"، وقوله تعالى في محكم التنزيل: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ".. وجاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشأن إعمال الفكر والتدبر في مخلوقات الله: "تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا في الخالق، فإنه لا يُدرك إلا بتصديقه"؛ ليتوصل المرء بتفكره إلى عظيم خلق الله، وبدائع صنعته؛ فيعبده حق العبادة.

 

أساس في حياة الفرد

وقال الحجي: إنَّ الفكر أساس في حياة الفرد؛ فنمط حياته وتصرفاته يأتي من نمط فكره وكيفية استخدامه، فإن كان فكره ناصعا لم تشوبه شائبة، يستقي أفكاره من معين القرآن وسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كانت أفكاره موافقة للشرع، وموائمة للمنهج السليم الذي يجب على المرء أن يتَّبعه وهو يخطو في هذه الحياة. أما إن كان الفكر عقيما، قد تلوث بالملوثات الفكرية التي صرفته عن إعماله في المفيد، وحادت به عن الطريق المستقيم، فإن ذلك سوف ينعكس سلبا على تصرفاته وأفعاله في واقع حياته؛ فهو للانحراف أقرب، وللزيغ عن مأوى ومرتع الرشد أدنى، يقول سماحة الشيخ القدوة أحمد بن حمد الخليلي: "فكر الإنسان هو مصدر استقامته أو انحرافه، وهداه أو ضلاله، فبقدر ما يكون عليه الفكر من الهدى، بحيث يكون نابعا من أصلٍ سويٍّ، تكون استقامة الإنسان في سلوكه، وبقدر ما يكون بخلاف ذلك، يكون أيضا انحرافه".

وأضاف: ويتباين الناس في أفكارهم وتوجهاتهم؛ لذا تتباين أفعالهم، وتختلف تصرفاتهم فيما بينهم، فمنهم صاحب الفكر السليم، والرأي السديد يُعْمل فكره؛ لتكون مخرجاته موافقة للشريعة الإسلامية والطبع السليم، وذلك حين ينطلقون من منطلقات موفَّقة صائبة من الكتاب والسنة؛ ففكره يقوده إلى منهج إصلاح النفس بعمل الطاعات، واجتناب المحرمات، وكيف يطوِّر من ذاته؛ لينفع نفسه، وينتفع به الآخرون، وما هي الأساليب والمنهجيات التي يمكن اتباعها في سبيل تحقيق ذلك واقعا.

 

جوهر متكامل

وزاد: وهناك طائفة من الناس يحملون أفكارا تُوقع المرء في الخطأ والزلل، وقد تؤدي به إلى ترك شيء من الدين أو التساهل فيه؛ لعدم نصوع الفكر، والتخبط الحاصل في الفهم الصحيح؛ فمن مثل هذه الأفكار: هل فعل معصية واحدة تؤدي بالمرء إلى دخول النار، وهو يصلي ويصوم.. فتراه متساهلا في إتيانها، يقترفها غير عابئ بما تخلِّفه من تبعات، وما درى هذا المقترف أن المعاصي تجرُّ بعضها بعضا، فيعم شؤمها في النفس، ولمَ لا تُردِي معصية واحدة بصاحبها في النار -والعياذ بالله- إن مات مُصَّرا عليها، فإبليس أبى أن يسجد لآدم حين أمره الله تعالى، فما كان من الله إلا أن أدخله النار، قال تعالى: "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ". وقيل لرسول الله: إنَّ فلانة تصلي الليل، وتصوم النهار، وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها، قال: "لا خير فيها، هي في النار". فأين صلاتها بالليل؟ وأين صيامها؟ لِمَ لَمْ يشفعا لها من النار؟ وقد يقول قائل: هل أنا ملزم بالأخذ بقول عَالِم من العلماء، بحيث لا أتعدى أقواله، ولا آخذ بآراء الآخرين؟ بهذا التفكير البسيط، محتجًّا بالقول المشهور: "من أخذ بقول عَالِم فهو سالم"، فتراه يأخذ أكثر الأقوال رُخصة، وقد يلجأ إلى الأخذ بأقوال شاذة، لم يجرِ عليها العمل، ولا مستندة إلى دليل يُعتدُّ به، أو لا يأخذ بالقول الراجح في مسألة من المسائل، وإنما اتَّبع هواه، ونصَّب نفسه مرجحا بين الأقوال، فيتَّبع مُراده في مأخذه، ويترك القول الراجح؛ لعدم سؤاله أهل العلم، أو اطلاعه على أقوالهم.

ومضى الحجي قائلا: ومن بين تلك الأفكار، تقسيم الدين إلى جوهر ومظهر، أو أساسيات وشكليات، وعلت حناجرهم: إن الدين يهتم بالجوهر، لا بالمظهر، وإنه يهتم بالأساسيات، ولا داعي لإتيان الشكليات، فكأنهم هم الذين أتوا بالدين، فقسَّموه تقسيما ما أنزل الله به من سلطان، وهل في الدين شيء شكلي لا إشكال في تركه؟ هل كان تعليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه كيف ينتعلون، وكيف يقضون حوائجهم، وكيف يدخلون، ويخرجون، وماذا يقولون، هل كل ذلك من قبيل الشكليات؟ فليعلم أولئك أن الدين جوهر متكامل، يُؤخذ به من ألفه إلى يائه، ولا يُلقوا بأيدهم إلى مهاوي الردى والضلال؛ نتيجة اجترارهم أفكارا تنافي الدين، وما جاء به.

واستطرد: وقد يجول بفكر آخر أنه ما زال في مرحلة الشباب، والاستمتاع بالحياة، فلا يُفوِّت الفرصة على نفسه، فلا داعي إلى الإتيان بالمأمورات كما أُمر، ولا حرج في إتيان المنهيات، فإنه سوف يتوب عندما يتجاوز مرحلة الشباب، وما درى هل يُمدُّ له في عمره؛ حتى يتدارك نفسه ويتوب، أم يفاجئه ريب الممنون، وهو في غيه وعصيانه.

وتابع: وهناك من الناس من يحملون أفكارا مُريبة حائدة عن النهج السليم؛ وذلك حينما يتعاملون مع الآخرين، فكما قيل: كلٌّ يرى الناس بعين طبعه، فتراه يعامل الناس معاملة قاسية، أو يكون قد تملكته إساءة الظن في غيره؛ فيبني علاقاته معهم وفق هذا التفكير السقيم.

وتابع: والعمل قبل القيام به يكون مسبوقا بفكرة، سواء كان عملا حسنا أم سيئا، ومراتب العصيان تبدأ بخطرة، ثم فكرة، ثم رغبة، ثم شهوة، ثم هَمٍّ، ثم عمل؛ لذا فليحرص المسلم أن ينقِّي عقله من كل فكر يؤدي به إلى ارتكاب المحظور، فإن فكره هو الذي يوجِّهه، ويوجِّه أعماله، فهو بمثابة الدليل الذي يدل المرء على الطريق؛ سواء كان الدرب مستقيما، أم معوجا زائغا عن المنهج السليم، منحرفا به إلى مراتع العصيان. والمؤمن كيِّس فَطِنٌ ينتقي أفكاره ويصلحها؛ ليصلح دربه وأفعاله، ويتدبر في الطريق الذي يسير عليه الآن، هل سيوصله إلى السعادة الأخروية؛ فيستمر فيه، أم أن هذا الدرب سيوصله إلى الشقاوة والندم في أخراه؛ فيجتنبه، ويبتعد عنه.

 

وسائل نقل الأفكار

وقال الحجي: إنَّ وسائل نقل الأفكار إلى العقل متنوعة؛ فقد يكتسب الشخص الأفكار عن طريق قراءته في الكتب؛ حيث يُعجب بكاتب معين فتأسره أفكاره؛ لهذا عليه أن ينتقي الكتب التي يقرأها؛ لتفيده، وتصلح فكره؛ ليصلح عمله، فإن الكثير من الكتب تحتوي على أفكار هدامة مغلفة بغلاف البيان، مقدمة على طبق الإسلام، فإنَّ من أخطر الأفكار المضللة التي تنطلق من منطلق ديني يُراد بها الهدم لا البناء، والتدمير لا التعمير، فلا يغتر المرء بها، وليحذر من الوقوع في فخها. وقد تصل الأفكار ويكتسبها الفرد من خلال وسائل الإعلام بما يستمع إليه من محاورات وندوات، فقد يُؤتى بأحد العلمانيين؛ ليبث أفكاره على مستمعيه، ليسيروا في دربها، وينتهجوا نهجها؛ فالمسلم الكيِّس فَطِن لما يستمع إليه، ينقِّي سمعه من أن تبهره فكرة تكون بداية دربه المشؤوم، الملطخ بشتى الأفكار السقيمة.

وأضاف: من أهم وسائل نقل الأفكار الصحبة؛ فالشخص بطول مصاحبته لصاحبه يتأثر به، ويحذو حذوه في أفكاره، ومن بعد ذا في أعماله، فقد يكون الصاحب ذا أفكار طيبة سليمة، موافقة للشرع الحنيف والنهج القويم، فتنتقل هذه الأفكار إلى صاحبه؛ فيسير في دربها، حيث الاستقامة والصلاح. وقد يكون الصاحب بعكس الأول، فتراه مُعبأ بلفيف من الأفكار الفاسدة الشيطانية التي أوحى إليه إبليس وأعوانه من شيطان الإنس، فديدنه الغفلة والعصيان، وكل ما يردي به إلى وَهدة الحضيض، فيتأثر صاحبه بأفكاره؛ فيقع في مستنقعها، وينغمس في أوحالها، ومن بعد ذا يترجمها عملا في واقع حياته، حيث الانحراف والعصيان، وقد عزف أعداء الإسلام على وتر الأفكار، فغزوا المسلمين في أفكارهم، وهو ما يطلق عليه "الغزو الفكري" فيشككونهم في دينهم، ويختلقون الأباطيل والشبهات، ويلصقونها بالإسلام؛ كي يُبعدوا عنه أهله، فلا يطبقونه كما ينبغي لهم.

وزاد الحجي: ومن منهجية القرآن الكريم في النظر العقلي ذم التقليد الأعمى؛ لأن التقليد يُلغي إعمال العقل، ويجعل المقلد أسير أفكار غيره، وإن كانت خاطئة، فتجد المرء مغرمًا بأفكار شخص ما؛ فيتبعه في تفكيره، ومن ثَمَّ في تصرفاته، وتلك التصرفات مخالفة للدين، تُكسب فاعلها الإثم والذنوب، والحياد عن الجادة السوية، قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ". ومن منهجية القرآن -كذلك- ذم الهوى؛ فمن يتبع هواه فهو مذموم؛ لأنه باتباعه هواه يُلغي فكره، أو يكون عارفا بالمنهج السليم إلا أنه لا ينتهجه؛ لأنه لا يوافق مراده وهواه، فكم شخصٍ يعرف حرمة الزنى وارتكاب الفواحش ويأتيها! وكم شخصٍ يعلم أن الربا والغناء والغش والاحتكار والرشوة محرمة، ويقترفها في واقع حياته! وما سُمِّي الهوى هوى إلا لأنه يهوي بصاحبه إلى النار -والعياذ بالله- قال تعالى: "إَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ". وقال سبحانه: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى".. فلو فكَّر المرء قبل العصيان، وانصاع لما يهدي إليه تفكيره -إن كان تفكيرا سليما- لما عصى ربه؛ ولكن اتباع الهوى، فالشخص لا يفعل المعصية لذاتها، وإنما من أجل اتباع هواه ومراده من جرَّاء تلك المعصية، حيث يطمح إلى نيل متعة فانية، يبقى شؤمها، وتنقضي لذتها. ومن الناس من لديه أفكار طيبة تجدي وتنفع إذا ما قعَّدها في واقع حياته، إلا أنه لعدم إدراكه الكيفية الصحيحة في تنفيذها؛ يخطي الدرب، فيقع في المغالطات بين أفكاره وتصرفاته، وحسن النية لا تبرر العمل، مما تقوده إلى انتقاد الآخرين له، فعليه الاستعانة بغيره، والاسترشاد بمراشد الهدى.

تعليق عبر الفيس بوك