الأوطان .. ونعمة الأمن والإيمان

عيسى بن علي الرواحي

وبعد أن أدَّينا واجبنا المفروض بتأدية صلاة الفجر جماعة والتي تجعل المسلم في ذمة ربه، وفطرنا بما تيسَّر من رزق معلوم بعد ليلة جميلة هانئة قضيناها على شموخ الجبال الراسيات بنيابة الجبل الأخضر، شددنا الرحال عازمين المسير مشيًا على الأقدام إلى منطقة أخرى جميلة في محافظة أخرى تحفنا في ذلك عناية الرحمن.

انطلقنا بزاد يسير من الماء والطعام وبكل عزمٍ وبأسٍ في رحلة أخوية جمعت الزملاء الأعزاء من الإداريين والمُعلمين، وكأنّهم أبناء أسرة واحدة؛ لما تمتعوا به من الألفة والأخوة والمحبة في رحلة جددوا فيها العهد بالولاء والعطاء لهذا الوطن العزيز الآمن المطمئن؛ فهم يوقنون أن عمان تستحق أكثر مما يقومون به.

طريق وعر شاق لم يكن سهلا يسيرا، قطعنا فيه السهل والجبل والوادي بين جنبات الصخور الكبيرة وفي المنحدرات الخطرة والمرتفعات الصعبة والطرق الضيقة وفي أعلى قمة شامخة على مشوار خط سيرنا كان علم عمان شامخًا بشموخ أهله، ورغم ما كان من جهد وتعب ومشقة في ذلك المسير الذي تجاوز خمس ساعات؛ فإنّ السعادة كانت بالغة والمتعة كانت حاضرة، وعند وصولنا إلى نقطة النهاية كان هناك من ينتظرنا في قرية (وكان) الشامخة بولاية نخل.

واصلنا خط رحلتنا الذي رسمناه قبل انطلاقنا، وبعد أدائنا صلاتي الظهر والعصر كانت استراحتنا في بلدة اﻷبيض بولاية نخل حيث تناولنا الغداء على ذلك الوادي الفسيح حيث المياه الصافية التي تجذب السياح من كل حدب وصوب؛ ليقضوا وقتًا جميلا مع عائلاتهم وأصدقائهم.

وبعد متعة السباحة اتجهنا إلى منطقة تسمى (خبة القعدان) تتبع بلدة اﻷبيض، وهناك ملتقى سياحي آخر حيث الرمال الذهبية مكونة تلالا بل جبالا يلتقي فيها أصحاب الهوايات من سائقي الدراجات وسيارات الدفع الرباعي وحيث المتعة لها حدودها والهواية لها ضوابطها، وإن كان غير ذلك؛ فإن المجازفة باﻷرواح والاستهانة بالحياة أمر خطير مخيف يجلب لصاحبه خسران الدنيا واﻵخرة.

على قمة مرتفعة من تلك الرمال الجميلة ومتعة مد البصر، وحيث القمر المنير والنجوم اللامعة أدينا صلاتي المغرب والعشاء، وعقبها تحدَّث أستاذ عزيز عن نقاط مهمة يجب على المرء أن يتمسك بها أينما كان وأينما حل وارتحل ومع من كان، ففي زحمة اﻷعمال الشاقة وفي غمرة الاحتفالات البهيجة ومتعة السياحة الرائعة لا ينبغي للمرء أن ينسى أو يتشاغل عن ذكر الله، فذكر الله يجب أن يكون حاضرًا في كل محفل متغلغلا في وجدان المرء دائمًا وأبدًا، ولا يعني ذلك بالضرورة أن يكون ترديدًا لسانيًا بقدر ما يكون حضورا قلبيا واستشعارا روحيا، فذكر الله صمام أمان للمرء يقيه من الغفلة وقسوة القلب ولهو الحياة يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (سورة اﻷحزاب : 41_ 42) كما تحدث عن أهمية اﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر في واقع المجتمع المسلم، وهذا اﻷمر الواجب الذي قصر فيه اليوم كثير من الناس هو ما ينذر بغضب الله تعالى، ففي القرآن الكريم أن الله تعالى قد أهلك أمة تركت اﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (سورة اﻷعراف :164_ 166).

كان عشاؤنا ومبيتنا على تلك التلال الرملية بهبات النسائم العليلة ومع بلوغ التعب مبلغه فإنّ النوم يحلو ويطيب، وعندما ينام الجسد بعيدًا عن أجهزة التكييف الحديثة فلا ريب أن استيقاظه ونشاطه وحيويته يكون مختلفا تماما، ولعلنا نتفق بأنه بقدر ما في أجهزة التكييف من راحة وفوائد؛ فإنّها لا تعدم المضار واﻵثار السلبية.

وبعد صلاة الفجر عُدنا إلى أهلينا وديارنا سالمين غانمين بعد رحلة خلوية كنّا فيها آمنين مطمئنين لا خوف ولا وجل أينما حللنا وارتحلنا في نومنا ويقظتنا وظعننا وإقامتنا، وحيث تركنا أهلينا وديارنا فإنّه لا قلق عليهم ولا خوف؛ لتتجلى لنا نعمة هي من أعظم نعم الله على وطننا العزيز ألا وهي نعمة اﻷمن واﻷمان والاستقرار.

(وآمنهم من خوف) لم تعد هذه النعمة الربانية الكبرى في كل وطن وكل مكان؛ ففي غمرة الاحتفالات الوطنية التي يعيشها أبناء الوطن بعودة عاهل البلاد _ حفظه الله_، وما ينعمون به من أمن وأمان واستقرار واطمئنان، يقتتل المسلمون بعضهم بعضا في عدة أقطار إسلامية عربية، ويزداد تناحرهم وسفك الدماء فيما بينهم، وتتلطخ شعوب وحكومات أخرى بتحمل هذا الوزر العظيم، وتتسع مناطق الفقر والمسغبة والخوف والهلع وانعدام اﻷمن بين المستضعفين من أبناء المسلمين؛ وترتفع حدة الشقاق والخلاف والتآمر والتربص إلى درجة ممقوتة قل من سلم منها. تذكيها في ذلك طائفية بغيضة وصراعات الكراسي الممقوتة وغيرها من أدواء اﻷمة وآفاتها الكريهة، ورغم أننا جزء من كيان اﻷمة العربية اﻹسلامية تسعدنا أفراحه وتحزننا أتراحه وتهمنا قضاياه فإننا نجد أنفسنا _ كما أشرت آنفًا_ نعيش في وطن مختلف وضعه تمامًا، وضع يتجلى فيه قول الله تعالى:(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (سورة قريش : 4).

وإذا كنّا نعيش في كنف هذه النعمة العظيمة التي حرمت منها شعوب وأوطان؛ فعلينا أن نحافظ عليها حفاظاً حقيقيًا يدوم لنا وللأجيال التي تعقبنا، فلا يكفي التغني فقط بهذه النعمة وتردادها دون العمل باﻷسباب الحقيقية للحفاظ عليها، فكم من وطن كان آمناً مطمئنا أصبح خراباً ودمارًا، وما كان يظن أبناؤه أن يصل الحال بهم إلى ما وصلوا إليه من قتل ودمار وتشريد وفقر وخوف وهلع، ونحن لسنا بمعزل عن العالم، ولسنا خارج السنن اﻹلهية والآيات الكونية فيما يدور حولنا إذا حدنا عن المنهج السليم القويم.

إنّ من أهم عوامل الحفاظ على نعمة اﻷمن والاستقرار هو اﻹيمان بالله تعالى حق اﻹيمان، والحفاظ على نعمائه وعدم الكبر والغرور والبطر، والحذر كل الحذر من أن نقع في الشماتة أو الاستهزاء بالشعوب واﻷوطان التي بُليت بويلات الحروب والدمار، يقول الله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (سورة النحل : 112) ولا ريب أنّ الفساد في اﻷرض والفسوق والعصيان موجب لسخط الله وعذابه وعقابه حيث يقول تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (سورة اﻹسراء : 16).

ومما هو معلوم أيضًا أن الشكر من أسباب بقاء النعم بل وزيادتها، وكفرانها سبيل لزوالها، وليس الشكر مقتصرًا على ترديد اللسان فحسب؛ بل لابد أن تصدقه اﻷعمال بطاعة الله تعالى في امتثال أوامره واجتناب نواهيه يقول الله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (سورة إبراهيم : 7)، وكما أسلفت القول فإنّ من ضمن أسباب حلول غضب الله وعقابه هو ترك اﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا الواجب العيني مما يجب أن يغرس في نفوس الناشئة في المدارس، ومما يجب أن يقوم به كل مسلم في أهل بيته وفي مقر عمله وفي كل مكان، وليس هذا اﻷمر كما يظن كثير من الناس أنه مقتصر على الدعاة وخطباء المساجد، سائلين الله تعالى أن يحفظ وطننا العزيز آمنًا مستقرًا مطمئنًا يأتيه رزقه رغدا من كل مكان، وأن يحقن دماء المسلمين في كل مكان وأن يجنبهم ويلات الحروب والدمار، إنّه سميع مجيب الدعاء.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك