سلاح القراءة

ليلى البلوشي

أعظم تعريف قرأته عن (القارئ) في حياتي هي العبارة التي قالها الكاتب الأورغوياني كارلوس ليسكانو صاحب كتاب (الكاتب والآخر) ترجمة نهى أبو عرقوب: أول ما يعزز الابتكار هو القارئ، إنّه يبتكر كاتبه الخاص انطلاقًا من الكتاب الذي يقرأ.

وبدأت أوقن منذ مدة طويلة أنّ القارئ ولا أعني هنا القارئ العادي بل القارئ المكتشف هو من سيرفع الركود الذي تعاني منه معظم القراءات في عالمنا العربي، لاسيما حين ولى النقاد الحقيقيون المكتشفون منذ زمن رجاء النقاش وإحسان عباس وغيرهما، ومذ وجدت الكتب نفسها في عالم أكثر نقاده أصبحوا تابعين لرافعات إعلامية، تلك التي تلمّع الكتب التي تصاحبها إعلانات قوية، أو تلك التي أصبحت تتمتع ببريق الجوائز. هنا في مثل هذا الوضع الثقافي المتردي، لا يبقى للكتاب والكاتب سوى القارئ المكتشف، الذي يقرأ بوعي، ويقتنص بذكاء الكتاب الجيِّد من على رفوف الكتب المزدحمة، بل حتى الكتاب السيئ له نصيب من المتابعة والاهتمام عند القارئ المكتشف، لتجريب ذائقته الشخصية، وميوله الفكرية في انتقاء ما يراه بوعيه، وبكامل حريته القرائية، بعيدًا عما يفرضه الذوق الدعائي العام على شريحة واسعة من قراء يفتقدون للوعي القرائي، ويرضخون لوميض كيفما كان باهرا أو باهتا دون الأخذ في الاعتبار لأي معايير منطقية؛ لفقدانهم ميزة تذوّق الكتب دون وساطات براقة!.

لم يفاخر بورخيس يومًا بأنه كاتب عظيم رغم عظمته بل كان يفاخر بأنه قارئ محترف، لذا العالم الثقافي الغربي يدرك أهمية القارئ للكتاب من ناحية وللكاتب من ناحية أخرى لما له من أبعاد ثقافية لتنشئة مجتمع قرائي حضاري متعدد ومخلص أبدًا للجمال؛ لذا هم يولون أهمية كبيرة لموضوع تطوير طرق القراءة ولتحويل الفرد العادي إلى قارئ جيد، لاسيما عند شريحة من تلامذة المدارس، فقد تطرّق كثيرا الكاتب الأمريكي تيم باركس لطرح موضوع القراءة، ومن إحدى مقالاته المهمة مقالة عنونها بـ "سلاح القراء" ترجمة المترجمة السورية أماني لازار، في هذه المقالة يتساءل عن الوسيلة الأكثر عقلانية التي يمكنه أن يتبعها ليقود طلابه ليقظة أعظم في حالة القراءة، فبدأ يُفكر بالطريقة التي يتبعها لدى القراءة تظهر فعالية القراءة، وتأكد بعد تفكير عميق أن سلاح القراءة يكمن في القلم وحينها وجه طلابه قائلاً لهم: من الآن فصاعدا اقرؤوا والقلم بيدكم، ليس بجانبكم على الطاولة لكن بالفعل في يدكم، جاهزة، مسلحة، ودوما اكتبوا ثلاثة أو أربعة تعليقات على كل صفحة، على الأقل تعليق نقدي واحد وحتى عدواني، ضعوا إشارات استفهام بقرب كل ما تجدونه مشبوها وضعوا خطا تحت أي شيء تقدرونه حقا، كونوا أحرارا لكتابة عظيمة لكن أيضا لا أصدق كلمة من هذا وحتى هراء.

تيم باركس يوقن أنّ القلم هو سلاح قوي من شأنه أن يطور القدرات القرائية بل يعمل على تحفيز الأداء القرائي، فالعقل الذي يقوم بعملية القراءة يبقى منصتا لصوته الداخلي بينما القلم في اليد فهو متحفّز يترقب إشارة عقلية كي يبدأ بمهمة التنقيب عن جوهر القراءة في عوالم الكتاب، وكلما كان الكتاب محرضًا كلما بدت عملية القراءة أكثر متعة وفي الوقت نفسه تتطلب جهداً أكبر؛ لأن القراءة هنا تخرج من طور المتعة واللذة إلى طور الاكتشاف، والقلم هو اليقظة التي تنبه القارئ إلى أهمية وضع خط وإلى كتابة تعليقات شخصية لا تنم عن وعي قرائي فحسب بل تعمل على رفع فعالية الرؤية النقدية عند القارئ وبتعبير تيم باركس قائلاً: الحقيقة المجردة في وضع يد متزنة مستعدة للقيام بفعل يغير سلوكنا تجاه النص.. لم نعد مستهلكين سلبيين لمونولوج أدبي لكن مشاركين إيجابيين في حوار، سيتذكر الطلاب أن قراءاتهم تباطأت عندما أمسكوا بالقلم في يدهم لكن في نفس الوقت صار النص أكثر كثافة، أكثر متعة.

وفي آخر المقالة يؤكد باركس على نظرية قرائية مهمة حين أشار بذكاء قائلاً:إن قراءة الكتب الرديئة بمقاومة يقظة أفضل من التهام الكتب الجيدة في افتتان غافل.

ليلى البلوشي

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك