حاتم الطائي
كثيرُوْن هُم مَنْ يتمتَّعُوْن بنعْمَة البَصَر الحِسيَّة والمتمثَّلة فِي القُدْرَة عَلَى رُؤيَة الأشيَاء المحِيْطَة بنَا، ومِنْ حَوْلنا، وتميِيْز الألوان والأشكال المختلفة (!). أمَّا البَصِيْرة -وهي خاصيَّة الرُّؤية المستقبليَّة لمآلات الأشيَاء- فقلةٌ مِنَ الناس والقادة التاريخيِّين هُمْ من يتمتَّعُوْن بها؛ لما تتطلَّبه من تَوَافُر قُدراتٍ استثنائيَّة، وصفاتٍ نادرة، وإمكانيَّاتٍ غَيْر عاديَّة.
... إنَّها بَصِيْرة القلبِ، والقدرةُ على تجاوزِ النَّظرة الأولى للواقع إلى ما بَعْده. ومَدَى اتِّقاد هذه البَصِيْرة يُعدُّ مُحدِّدًا رئيسيًّا، ومُميِّزا أساسيًّا لنجاحِ القيَادَةِ عَنْ فشلها؛ فالقيَادةُ النَّاجحة هي تلك التي تُوظِّف البَصِيْرة في استجماعِ عَنَاصِر القوَّة والطَّاقة، وتُكرِّسها نَحْو البناءِ والتَّعمير.
والسُّلطانُ قابوس مِن القادةِ الذين نَجَحُوا في استثمارِ ما حَبَاهُم اللهُ به مِنْ نِعْمَة البَصِيْرة فِي إنجازِ مشروعٍ حضاريٍّ وتنمويٍّ يُشارُ إليه بالبنان.
ويُمكنُ أنْ نتخيَّل عَظَمة هذا المشروع -الطَّمُوْح في البناء- إِذَا ما اسْتَعَدْنا صُوْرَة عُمان قبل السَّبعينيَّات؛ حيثُ كانتْ دَوْلة بلا بُنَى أساسيَّة، وتفتقرُ إلى المدارس والمستشفيات، وكان إنسانُها غارقًا في دياجِيْر الأميَّة، وتعيشُ بداخله الأمراضُ والأوْبِئة.
وهُنا تجلَّت بَصِيْرة القائدِ المفدَّى، التي اخترقتْ حُجُبَ ذلك الحَاضِر القاتِم؛ لترسمَ لعُمَان صُوْرَتها المشرقة.. والمتمعِّن في الشأن العُمَاني يستطيعَ أنْ يُبْصِرَ عُمَان المستقبل؛ حيثُ تنتشرُ اليوم المدارس ومؤسَّسات التعليم العَالي لمُحَاربة الجَهْل، وإضاءة مَشَاعل المعْرِفة، وهُناك تقومُ المستشفيات لتقدِّم العِلاج والخَدَمَات للمواطن في كلِّ مكان؛ لينهضَ بواجبِ الإسهام في التنمية التي عمَّت أرْجَاء السلطنة؛ مِنْ: طُرق، ومَوَانئ، ومَطَارات، ونَهْضَة عُمْرَانيَّة شملتْ جميعَ القطاعات.
وبهذه البَصِيْرة النَّافذة، وَعَد القائدُ شعبَه في الخطاب الأوَّل بالقول: "سأعملُ بأسْرَع ما يُمْكِن لجَعْلِكم تعيْشُوْن سُعداءَ، لمستقبلٍ أفضل، وعلى كلِّ واحدٍ منكم المساعدة في هذا الواجب.. كانَ بالأمس ظلامٌ، ولكن بعَوْن اللهِ غدًا سيُشرقُ الفَجْر على عُمَان وعلى أهْلِهَا...".
... إنَّ تلكَ الرُّؤية الاستشرافيَّة لجلالته -حفظه الله- هِي التي مكَّنتْ عُمَانَ مِنْ تجاوزِ الصِّعَاب والتَّحدِّيات في مَشْرُوْعِها التَّنموي الطَّمُوح، وتنطلقُ لتحقِّقَ الكثيرَ من المنجزاتِ التي ننعمُ بها اليوم.
وَقْتها -وعندما أطْلَقَ جلالتُه هَذا الوَعْد- لم تكن مَصَادرُنَا ولا مَوَارِدُنا الماليَّة وفيْرَة، لكنَّها مَع توافر الإرادةِ السَّاميةِ كانتْ كافية لتحقيق نَقْلة نوعيَّة لهذا الوَطَن الحَضَاريِّ الموْغِل في القِدَم؛ فجلالتُه -وبُبْعد نظره، ورُؤيته الثَّاقبة- أثبتَ أنَّه صاحبُ رِسَالة في قِيَادة هذا الشَّعب إلى مَرَاقِي التطوُّر، وإعادة أمجادِ عُمَان التي تضربُ جُذُوْرُها في أعماقِ التَّاريخ، وسَطَّرتْ إنجازاتٍ في سِفْر المجْدِ التَّليد.
... البَصِيْرة النافذة لجلالة القائدِ المفدَّى -حفظه الله- كانتْ حاضرةً طَوَال سَنَواتِ النَّهضة المباركة، وهي التي عظَّمتْ المردودَ التنمويَّ فِي كلِّ المجالات خلال العُقُوْد الأربعة الماضية، وهي التي هيَّأتْ الظروفَ المواتية للتغلُّب على التحدِّيات والصُّعوبات التي واجهتْ مسيرتنا؛ لتمضِي السَّفيْنَة العُمانيَّة، وتشقَّ طريْقَهَا بثقةٍ نَحْو برِّ الازدهار والرُّقي.
بعضُ المشاريع التنمويَّة والحضاريَّة كانتْ في نَظَرِ البعضِ غَيْر مُجْدِية بالمعنَى الاقتصاديِّ، إلا أنَّ صاحبَ الجلالة -أيَّده الله- كانَ ببصيْرَتِه يَرَى بُعْدًا أعمقَ وأشملَ لهذه المشاريع؛ باعتبارِهَا ضرورةً حضاريَّةً.
وفي هذا؛ يُضْرَب المثلُ بمشروع "جامعة السُّلطان قابوس"؛ حيثُ حَاوَلَ البعضُ أنْ يقول بأنَّه مشروعٌ غَيْر مُجدٍ، والأجْدَى المواصلة في ابتعاثِ العُمَانيين للدِّراسة فِي الخَارِج، لكنَّ رُؤْية صَاحِب الجَلالة كانتْ واضحةً بأنَّ بناء الجامعة -في الثمانينيَّات من القرن الماضي- لبنة أساسيَّة في البناء الحضاري العُمَانِي. وهكذا تتالتْ المشاريع العملاقة الأخرى من سوق مَسْقط للأوراق الماليَّة، إلى مجلسِ عُمَان، والمحكمة العُليا... صُرُوْحٌ مُهمَّة على خارطة التنمية العُمَانيَّة.
وهُنَا؛ يُمكنُ الاستشهادُ بحديثِ جلالتِهِ المنشورِ في جريدة "السِّياسة" الكُوَيتيَّة -في الثاني عَشَر من فبراير للعام 2006م- حيث قال: "إنَّني أشعرُ بأنِّي صاحبُ رِسَالة، ولَيْسَ صاحبَ سُلطة".
هَذِه العِبَارة تلخِّصُ -وبوضُوْح تام- فِكْرَ جلالتِه في بناء الوطن، والعمل على رفاهية مُواطنيه في نَهْضَة عُمانيَّة شَامِلة؛ وَضَعَ جلالتُه فَلسفَتَها، وفِكْرَها، ومَشْرُوْعَها الحضاريَّ، بعيداً عن هاجسِ السُّلطة، شأن القادة العِظَام في التَّاريخ، ممَّن يصنعُوْنَ النجاحَ، ويقوْدُون بلادَهم وشعوبَهم صَوْب مرافئَ التقدُّم والازدهار.
ويُفْصِحُ جلالته -فِي الحُوَار ذاته مع رَئيس تحرير الصَّحيْفة الكُويتيَّة- عن جانبٍ من رِسَالةِ القِيَادة؛ حينما يقول: "إنَّ مُتْعَتِي هي أنْ أرَى بَلَدِي، وأَرَى شَعْبِي بالصُّورة التي تخيَّلتها من أوَّل يَوْم تسلَّمتُ فيه السُّلطة".. إنَّه السُّمو الذي يَسْمُو فَوْق السُّمو، والإحساس العَمِيْق بالمسؤوليَّة الذي لا يُماثِله شُعُوْرٌ تجاه نَهْضَة هذا الوَطَن، والارتقاء بأبنائِه.. فهَكَذا هو الأبُ يعملُ دائمًا من أجْل إسْعَاد أبنائِه، ويَسْعَد عِنْدَما يَرَاهُم في المستوى الذي لطالما نَشَدَهُ لهم.
وحُلْم البناءِ لعُمَان لا يتوقَّف ولا يَعْرِفُ الحدودَ.. وفي هذا نقرأ قول جلالته: "أحلامُنَا لأجلِ عُمَان كثيرة وكبيرة".
أحلامٌ كبيرة تسندُهَا بصيرةٌ نافذةٌ، وسعيٌ عمليٌّ لتحقيقِ الأفضل لعُمَان، والبصيرة المستنيرة ذاتها هِيَ التي توجِّه سياستنا الخارجيَّة؛ حيثُ استطاعتْ الحِكْمَة العُمانيَّة أنْ تُكسبَ عُمَان صَدَاقة العَالم بفَضْل رُؤيَةٍ ثاقبةٍ في تطبيقِ سياسةِ الحِيَاد الإيجابيِّ، وعَدَم التدخُّل في شُؤونِ الغَيْر، وعَدَم قَبُوْل تدخُّل الآخرين في شُؤوننا. والهدفُ واضحٌ وهو أنْ تكونَ عُمَان دَوْلةً صديقةً للجَمِيْع عَلى الرَّغم من الاختلافاتِ العقائديَّة والسِّياسيَّة ضِمْن مبدأ التعايش وتبادل المصالح التي تخدمُ الشعوبَ، وتعزِّز الصِّلات وتقوِّي الوَشَائج؛ تماشيًا مع الحِكْمَة الرَّبانيَّة في التنوُّع والاختلاف: "وَجَعَلْنَاكُم شُعُوْبًا وقَبَائِلَ لتعارفوا...".
... إنَّ عُمَان تتطلَّع لتحقيقِ مزيدٍ من الإنجازات الحضاريَّة والتنمويَّة، وترنو لغدٍ أكثر إشراقاً يرسمُ ملامِحَه جلالةُ السُّلطان قابوس على هَدْي بَصِيْرَته الوقَّادة، وأحلامِهِ الكبيرةِ لوطنِ العزِّ والشُّمُوخ.