"شرارة" في سماء مسقط

حاتم الطائي

تساءَل البعضُ عن جدوى ومغزى الحفاوةِ التي واكبت وصول أوَّل طائرة شمسية في العالم " أمبلس 2 " إلى مطار مسقط، لتكون محطتها الأولى في رحلة حول العالم هي الأولى من نوعها عبر طائرة تسير بالطاقة الشمسية..

وأرى أنَّ المُتسائلين عن جدوى تعظيم هذا الحدث، قد جانبهم الصواب في فهم أبعادِه العملية والإعلامية..

فهو يُعد فتحًا علميًا جديدًا لا يقل أهميةً عن الكثير من الاكتشافات العلمية البازرة في مسار العلم، فللمرة الأولى تُحلِّق طائرة وبنجاح دون وقود اعتمادًا على طاقة الشمس فقط..

وسيظل محفورًا في ذاكرة التاريخ أنّ مسقط العامرة كانت المحطة الأولى في الرحلة التاريخية لطائرة الطاقة الشمسية، وسيروي العمانيون الذين شهدوا الحدث مساء الإثنين الماضي، وعانقت أنظارهم سماء مسقط ترقبًا لوصول "أمبلس 2"، لأحفادهم كيف كانت الرحلة الأولى التي كانوا شهودًا عليها عندما كانت الطائرة تُحلِّق في سماء مسقط المرصعة بالنجوم بأجنحة طويلة نسبيًا وإضاءات خافتة على جانبيهما لتهبط بعدها وبسلام في مطار مسقط دون قطرة من الوقود الأحفوري..

وإعلاميًا، شكَّل الحدث مكسبًا كبيرًا للسلطنة بسبب الزخم الإعلامي الكبير الذي واكب وصول الطائرة، حيث نقلته محطات التلفزة العالمية لتتوجه الأنظار إلى مسقط تتابع الحدث باهتمام بالغ، كما أنّ الإعلام العُماني وبمختلف وسائله كان حاضرًا يُوثِّق ويُسجل هذه اللحظات التاريخية، وما واكبها من مظاهر حفاوةٍ رسميةٍ إدراكًا لأهمية الحدث في صناعة المستقبل..

لم تكن "أمبلس 2" المحاولة الأولى لاستخدام الطاقة الشمسية في الطيران، بل سبقتها طائرة "سولار رايزر" التي كانت أوّل طائرة تقوم برحلة جوية استخدمت فيها الطاقة الشمسية وذلك في عام 1979..

وتبعتها في الثمانينات العديد من التجارب الناجحة وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنّها ظلت محدودة من ناحية المسافة وزمن الطيران، حيث لم تتجاوز أبعد رحلة قامت بها طائرة شمسية من قبل المسافة بين مدينتين في بلد واحد..

لذا فإنّ رحلة "أمبلس 2" تعد تاريخية ورائدة لأنّها تعد الأولى حول العالم، ولعل في هذا ردًا على من أثاروا التساؤلات بشأن أهمية الخبر والضجة الإعلامية التي رافقت وصول ومغادرة الطائرة مسقط.

وعودة إلى أهمية الحدث، نقول إنّه مُهم من عدة نواحٍ سياحية وعلمية واقتصادية..

إنّ استخدام الطائرة للطاقة الشمسية يحمل رسالة هامة، حول كيفية تحويل الحلم إلى واقع عملي، فهذه الرحلة الاستثنائية، اختمرت فكرة في رؤوس منفذيها في سنوات طويلة، وتعايشوا معها حلماً لفترة طويلة، قبل أن يُحلقوا بهذا الحلم في آفاق التحقق.. وهكذا هي الاكتشافات العظيمة تبدأ بفكرة وحلم لتتحول إلى حقيقة تخدم الإنسانية..

فهؤلاء الرواد الذين طاروا بهذه الطائرة، مهدوا الطريق ووضعوا القاعدة العامة التي ستسير عليها طائرات المستقبل من خلال طاقة الشمس وهي مستدامة وصديقة للبيئة..

يا لها من فكرة ابتكارية جريئة، على شبابنا الاستفادة القصوى منها في استنهاض روح الابتكار والمغامرة والإبداع، والمثابرة في تحقيق الأحلام التي قد تبدو بعيدة ومستحيلة ولكنها مُمكنة التحقق بالإرادة والعمل..

أقول هذا وفي البال، نماذج من شبابنا الطموح القادر على الابتكار والإبداع، واستطيع هنا الاستشهاد بتجربة رائدة لأحد الفائزين بجائزة الرؤية الاقتصادية (فئة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة) حيث تمكن هذا الشاب من تأسيس شركة (نفاذ للطاقة) متخصصة في تقديم حلول استخدام الطاقة الشمسية، محققًا نجاحًا باهرًا رغم محدودية الإمكانيات التي بدأ بها، ويبشر ابتكاره ببداية عهد جديد من توظيف هذه الطاقة في عمان خاصة وأنّ بلادنا تعتبر من أكثر البلاد مواءمة - وعلى مستوى العالم- لظروف توليد الطاقة الشمسية وذلك لموقعها ضمن المناطق الصحراوية الحارة التي تتمتع بميزة كثافة الطاقة الشمسية مما يجعلها مهيأة تمامًا للاستفادة من هذه الطاقة المتجددة والتي يمكن توظيفها لمقابلة الاحتياجات المتنامية للطاقة في بلادنا والتي تزداد بمعدل 15% سنويًا.

وكما هو معروف فإنّ أوجه الاستفادة من الطاقة الشمسية مُتعددة، وأهمها تسخيرها لتوليد الكهرباء.. ومن ثمّ تحويلها توظيفها في استخدامات كثيرة مثل الإضاءة والتدفئة والتبريد وغيرها، إلا أن أحد أهم الاستخدامات للطاقة الشمسية هو في تحلية مياه البحر وهي تقنية متوفرة نسبيًا في العديد من دول العالم، ونحتاجها هنا في عُمان وبشكل عاجل كون محطات التحلية عندنا تعتمد في عملها على الوقود الأحفوري، وما يرتبط بذلك من تكاليف باهظة وأضرار بيئية.

وحتى نحقق الأفكار الطموحة التي فيها خروج عن المألوف، علينا أن نبدأ في التخطيط السليم ووضع خارطة طريق للوصول إلى الأهداف المتوخاة .. وفيما يتعلق باستخدامات الطاقة الشمسية يُمكن أن تكون البداية بإنشاء مركز متخصص للطاقة الشمسية يُشرف على مشروع موحد للاستفادة من هذا المصدر المُتجدِّد عبر خطط عملية مرتبطة ببرنامج عمل زمني، ويتزامن معها إعداد الكوادر الوطنية المتخصصة والمؤهلة للتعامل مع التقنية من خلال البدء بابتعاث أبنائنا للدراسة في الخارج وفي الجامعات التي قطعت شوطًا في المجال.. كما يمكن لجامعاتنا وكلياتنا ذات العلاقة استحداث تخصصات في هذا المجال في مناهجها العلمية. وعلى مجلس التعليم دعم المبادرات الهادفة إلى توطين علومها في بلادنا. كما يمكن لمجلس البحث العلمي أن يتبنى هذا التوجه العلمي والحيوي ضمن مشاريعه ذات الأولوية.

ومن المؤكد أنّ التوجه نحو استثمار طاقة الشمس، لا يتناقض مع كوننا دولة نفطية باعتبار أن حقول الطاقة متداخلة وتكمل بعضها البعض، الأمر الذي يمنحنا الريادة في الجمع بين أكثر من مصدر من مصادر الطاقة وبالتالي ينعكس على تسريع وتيرة التنمية.

تعليق عبر الفيس بوك