محمد العريمي
طوال سنوات عمري الفائتة كنت أتخيّل "روي" عبارة عن بضعة شوارع مزدحمة تحيط بها الجبال من كلّ جانب، وآسيويّين يملؤون المكان. وبرغم أحاديث بعض الزّملاء عن وجود عمانيّين يسكنون بها، إلا أنّني لم أكن أقتنع أو بالأحرى أستوعب ما يقولونه، فأين سيسكن هؤلاء والمكان إما شوارع، أو بنايات، أو جبال!!.
وطوال سنوات طفولتي وصباي أيضاً عندما كنت أزور العاصمة في زيارات متقطّعة مع إخواني الأكبر سنّاً كنت أعتقد كذلك أنّ سكّانها يختلفون عن بقيّة سكّان عمان، بحيث يبدون لي وكأنّهم من كوكب آخر، وأنّ ملابسهم وبيوتهم ومأكولاتهم تختلف عنّا، ولأنّهم متطوّرون فإنّهم لا يلقون التّحيّة على الآخرين عندما يلتقون بهم في الشّوارع والحارات كما نفعل نحن سكّان الولايات البعيدة الذين نعتقد أنّ السّلام فريضة لا تقلّ أهمّيّة عن تأدية الفرائض الدينيّة، وأنّ عدم قيامك بإلقاء التّحيّة على الآخرين أو ردّك عليها يعتبر منقصة أيّما منقصة، وعيباً يلاحقك ذنبه إلى آخر العمر. مع مرور السّنوات تغيّرت كثير من تلك القناعات وبقي بعض منها راسخاً إلى أن ساقتني الأقدار ذات مغربيّة إلى أن أضلّ طريقي وسط إحدى حارات روي الضّيّقة وألتقي بجمال الوهيبي!.
كان جمال - وهو شابّ اقترب من الثّلاثين أو تجاوزها بقليل- مشغولاً عند مناداتي له بالحديث مع أهله، ويبدو أنّهم كانوا متأهّبين للذهاب في مشوار عائليّ ما، عندما قطعت عليه حديثه لأسأله عن كيفيّة الخروج من الحارة، وكي يدلّني على أقرب الطّرق التي تؤدّي إلى الشّارع العام.
بعد التّرحيب والسّلام والدّعوة لتناول القهوة حاول جمال أن يصف لي طريق العودة، وعندما شعر بحيرتي وعدم استيعابي لوصفه قطع حديثه وفتح باب سيّارتي مستأذناً إيّاي في الرّكوب بجواري كي يدلّني بنفسه تاركاً مشاويره العائليّة لوقت آخر، رافضاً كلّ محاولاتي لإثنائه عن هذا الأمر.
كعادة العماني عندما يلتقي بالآخر سألني جمال في ودّ عن اسمي ووجهتي، وسبب قدومي إلى المكان، وعندما عرف السّبب وهو رغبتي في إضافة بعض الإكسسوارات المهمّة لسيّارتي الجديدة، وحيرتي في معرفة الأماكن المناسبة لشرائها، أصرّ مرّة أخرى على مرافقتي للأماكن التي يعرفها في المنطقة والمناطق المجاورة، وعرض عليّ خبرته في هذا المجال، وتولّى المفاصلة والاستفسار نيابة عنّي مع أصحاب تلك المحلات، وكان يناقشهم وكأنّه صاحب السّيّارة لا أنا، وهكذا ظلّ يفعل على مدى أكثر من ساعتين قضيناها معاً نتنقّل من محلّ لآخر، ومن منطقة لأخرى! وعندما انتهت جولتنا ورغبت في العودة، وبعد رفضي لكافّة محاولاته كي أتناول وجبة العشاء أصرّ على النزول عند ناصية الطّريق وعاد إلى منزله راجلاً خوفاً من أن أضلّ طريقي مرّة أخرى برغم بعد المسافة نسبيّاً بين المنزل وأقرب شارع.
طوال المدّة التي قضيناها معاً تحدّثنا في أشياء كثيرة وكأنّنا نعرف بعضاً منذ سنوات طويلة لا منذ سويعات قليلة! واكتشفت وجود أصدقاء وزملاء عمل مشتركين بيني وبينه! وعرفت من خلاله معلومات عن تاريخ المكان، وسكّانه، ومدى حرصهم على البقاء في المكان الذي عاش فيه أجدادهم وآباؤهم من قبل برغم كل التحدّيات (والمغريات) كذلك التي تشكّل ضغطاً عليهم للخروج من المكان إلى أماكن أخرى متمسّكين به، ورافضين تركه للعمالة الوافدة كما فعل آخرون قبلهم!!
كان بإمكان جمال أن يكتفي بأن يصف لي الطّريق، أو أن يوصلني إليه دون أن يلزم نفسه بمرافقتي أو بإبداء كل ذلك الحماس والاهتمام لدرجة تركه لأعماله وارتباطاته خاصّة وأنّه لا يوجد سابق معرفة بيننا، كما أنّ هيئتي لا توحي بكوني شخصيّة مهمّة تستدعي الاهتمام بها أو التقرّب منها، ولكنّ قيم العماني المتأصّلة في داخله هي من جعلته يفعل ذلك، وهي ذات القيم التي نعتقد أحياناً أنّها ذهبت بلا رجعة، ولكنّها تظهر في الوقت المناسب فاتحة كوّة كبيرة من الأمل والتفاؤل بأنّ مجتمعنا ما زال بخير. تصرّف كهذا قد تجد نسخاً كثيرة مشابهة له في أماكن كثيرة من هذا الوطن.
شكراً جمال الوهيبي لأنّك غيرت كثيراً من تخيّلاتي وتصوّراتي عن أماكن وأشخاص ربّما ما كانت لتتغيّر قريباً لولا لقائي بك. شكراً لأنّك أكّدت لي ثقتي بشباب وطني ومدى تمسّكهم بقيم تناقلها المجتمع جيلاً بعد جيل مهما اعتقدنا أنّ العولمة ورياحها العاتية كفيلة بأخذها بعيداً. شكراً لأنّك أثبت لي أنّ القشور الخارجيّة لا تعبّر دائماً عن أصالة الجوهر، وأنّ نار السّمر لا تخلّف رماداً، بل جمراً مشتعلا.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com