واقع الكاتب العربي.. وضبابية المستقبل

سلطان بن خميس الخروصي

في إيوان النادي الدبلوماسي وبكرم جريدة الرؤية وتقديرها للقلم ومداده الوضّاء نحو تبيان الحقائق وما تحتضنُه حُبلى الأيام من تشرذم في الفكر العربي وازدواجية كارثية في المفاهيم ومُغالطات مُفجعة في المصطلحات والمبادئ والقيم، كان الحديثُ ذو شجونٍ حول واقع الكاتب العربي وما تضمرُه المرحلة القادمة من مستقبلٍ مجهولٍ كضبابية الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، قد لا يختلف اثنان أن القارئ هو ذلك المُستهلك الرئيسي لسِلعة الكاتب؛ فكلما وجد الأخير شريحة من المجتمع يستلذّون قلمه وما يُدليه من حقائق وبراهين وتحليلات رصينة وأصيلة فإن في ذلك مكسبٌ للوطن من خلال رفع مستوى الإنتاج العلمي والفكري والعكس نقيض ذلك تماماً، لكن السؤال الذي يُطرح في هذا المقام هل واقع الكاتب العربي يدفع الأقلام (المقنِعة) إلى جلاء غشاوة المغالطات التي عششت على أعين الناس فتكشف لنا حقيقة أقلام (مُقنَّعَة) تحاول جهاراً نهاراً دسّ السم الزعاف في صفوة العسل؟، ثم هل المواطن العربي يقرأ ما يخطّه قلم الفكر التنويري فيعض بالنواجذ على ما يقدّم من عصارة الأفكار المعتدلة بعيدا عن السماجة المقيتة؟ وهل يُمكن للكاتب العربي أن يكون البوصلة القادمة للثورات العربية بُعَيد عبث الربيع العربي الذي عاث بالأوطان فسادا؟ ثم هل يُبَرأ الكاتب العربي من تدنيس نزاهة الفكر الثوري العربي ليمسخ عقول الأجيال فتنشأ جماعات تكفيرية وظلامية أهلكت الحرث والنسل؟ وهل تولي المؤسسات الثقافية وعلى رأسها مؤسسات التعليم في الوطن العربي اهتمامًا بصرخات الكتاب بضرورة اجتثاث التعليم من وحل الإرهاب التربوي؟ وأخيرًا هل يخطُّ الكاتب العربي مداد قلمه باستقلالية تندفع نحو الإصلاح والتنمية أم أن الأمر لا يعدو إلا شراء الذِّمم والبهرجة لتفقده بذلك جموعاً غفيرة من المُتعطِّشين للكلمة المُعتدلة والفكر المستنير المتوازن في منطقة تغلي بالتخبطات السياسية والفكرية والاقتصادية والتعليمية؟
تواترت الأسئلة الآنفة في مُخيِّلتي وأنا أستمع وأستمتع بآراء تلك النخبة من عمالقة الحبر العُماني والعربي في الجلسة الحوارية التي نظّمتها جريدة الرؤية وحاولت قراءة واقع الكاتب العربي، فكانت الصورة سوداوية إلى حد كبير في ظل انتشار سرطان (داعش) بجسد الأمة العربية والإسلامية والتي أضحت تحكم البلاد بالنار والحديد، وبين كل هذا الرماد يظهر قلم الكاتب العربي وهو مكلوم بصورة ضبابية دون خارطة طريق بيّنة ولسانُ حاله يقول "فَدَارِهم ما دُمت في دَارِهِم، وَأَرضِهِم ما دُمتَ فِي أَرضِهِم" فلا يُمكن للقلم أن يصدح بالإنتاج والإبداع والتمّيز ما لم تكتنفهُ بيئة آمنة ومستقرة تجرّه نحو التنوير والتجديد، أضف إلى ذلك أهمية وجود القارئ المُتفحّص والمُنتقي لبنات أفكار القلم حين يرميها الكاتب في وعاء المجتمع إلا أن واقعنا يشي بعكس ذلك؛ فكم من أقلام حَملت على عاتقها مسؤولية تبصير شباب الأمّة بالفكر المعتدل والأخلاق الإنسانية النبيلة وسماحة الدين الشريف وتحفيزهم نحو الإنتاج والتنمية التطوير إلا أنّ شذرا من مراهقي الدين - وهو بريء منهم كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب- يفتي باستباحة دمه، وذلك يذكّرني بقول علي الوردي "من يحترم المكر السياسي باسم الدين إنما هو يمسخُ الدين من حيث لا يشعر"، وقول الإمام الغزالي "هجر المسلمون القرآن الكريم إلى الأحاديث، ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة، ثم هجروا أقول الأئمة إلى أسلوب المُقلِّدِين، وكان تطور الفكر الإسلامي على هذا النحو وبالاً على الإسلام وأهله" وكأنّ الدين عدو للكاتب فيحشر بآراء المغلظين في زاويتن لا ثالث لهما إما معي أو ضدي؛ وبهذه المُعادلة سُفكت دماء كُتاب لهم باع طويل في التنوير واستظهار فضائح المُقنَّعِين الذين يكيلون للأمة السوء ويتصيّدون في الماء العكر.
وفي زاوية أخرى نجد أنّ كثيرًا من الأنظمة العربية تعتبُ على الإسلاميين أنّهم (منغلقون) في فكرهم البالي وأدبياتهم (السمجة) من خلال تقصِّيهم للكاتب الذي يصدحُ بالحق ويفضح أشباه الرجال بأنّهم ليسوا إلا (سماسرة) يعتقلون عقول الفُقراء وقلوبهم ليحلبوا جيوبهم بعد حين، لكننا نجد أنّ الوضع في أغلب الأنظمة العربية هي أشبه بــ(وجهان لعُملة واحدة)؛ إذ تضجُّ سجون أغلب الأنظمة العربية بأصحاب الرأي، والذي هو انتهاك صارخ للديمقراطية التي تتغنَّى بها تلك الأنظمة، علاوة على ضعف دعم الجموع الشعبية للأقلام المُنتجة صاحبة الرأي والفكر التنويري المعتدل التي يعوّل عليها الكثير في خضم تزاحم الجراحات والفوضى الفكرية؛ فغياب شراهة القراءة تُشكِّل خنجراً في خاصرة الكاتب إذ أظهرت الدراسات أنّ مُعدل القراءة لدى المواطن العربي سنويًا لا تتجاوز (6) دقائق بينما نجد أن ذلك المعدل في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية يتخطى (200) ساعة سنويا، أضف إلى ذلك أنّ الطفل الأمريكي يقرأ (6) دقائق في اليوم الواحد بينما يقرأ الطفل العربي (7) دقائق في السنة كاملة! وهنا يبرز دور المؤسسات التعليميّة التي لا تزال مناهجها العقيمة جاثمة على صدور الأجيال؛ فهي لا تُحاكي واقع القراءة والكتابة الحديثة التي تغرس في نفوسهم قيم المواطنة والتشبُّث بالهُوية الوطنية وتجويد مهارات القراءة وإكسابه براعة النقد والتمحيص بعيداً عن ثقافة التقديس والتبجيل.
ما يعيشه الكاتب العربي هو واقع مُزرٍ، ومستقبل مجهول، وصورة ضبابية، وما تخطُّه بعض الأقلام من جُرأة في توصيف الحقائق والتحليل وقراءة المشهد العربي والعالمي هي (مُجازفة) كثيراً ما تهوي بهم في غياهب الظُلمات، نحن بحاجة إلى أن يوضع كُتَّابنا في بيئة آمنة بعيدة عن بطش العسكر والاستخبارات، وبعيدًا عن مشانق ومناشير المُتلوِّنيين بالدين والشريعة. الكاتب العربي المُخلص كَيِّسٌ فطنٌ لا يُمكن أن يُساوم وطنه بنجاسة المصالح الشخصية فهو أرقى من ذلك بكثير، من المُعيب جداً أن نَقهر هذه الأقلام ونجعلها تخط مُكرهة بما تمليه يد البطش والقوة وكأننا في عهد ملوك الطوائف؛ كلٌ يرى نفسه ولي الله ونبيه المرسل، الكاتب العربي بحاجة ماسة إلى أن يعلن الشعب العربي الولاء له فيما يخدم مصالح الأمة كثورة تدافع عنه، وتحفظ قلمه من الانجرار وراء (القطيع) قسرا وقهرا، علينا أن نغيّر الصورة المكفهرة التي أوجزها محمد حسنين هيكل في قوله: "لدينا في وطننا العربي يمين يذهب إلى الجهل، ويسار يذهب إلى المجهول".
ودمتم بود..

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك