اليوم مات خالي وخالي

عائشة البلوشية


في إحدى ليالي عام 1978م رأيت فيما يرى النائم أنني وشقيقتي علياء في طريقنا إلى صلالة مشيا على الأقدام، حيث طلبت منا جدتنا الغالية أطال الله في عمرها إحضار القت (البرسيم)، وكان برفقتنا بنات أعمام والدنا (علياء وجوخة)، وقد ضيعنا الدرب وتاهت بنا الطرق الوعرة لنجد أنفسنا في أرض جدباء إﻻ من بعض شجيرات السمر، وداهمنا الظلام ودب الرعب في قلوبنا، فلجأنا إلى إحدى أشجار السمر وقمنا بحفر الأرض حتى صنعنا حفرة وجلسنا فيها نراقب المكان من حولنا، وفجأة رأينا وميض فلاش إحدى الكاميرات البولورايد، وخرج علينا جنود كثر من خلف الأشجار، فقمنا بإخفاء أعواد البرسيم تحت أجسادنا حتى لا يأخذوه منا ونتعرض للعقاب.. فنهضت من نومي وهذا المنام يعيد نفسه في مخيلتي، وعندما انبلج الصبح جاء جمعة بن خصيب بعد رد الفلج في الضاحية، وجلس ليحتسي القهوة، فانبريت أسرد منامي على جدتي وهما ينصتان إلي، فقالت لي جدتي، عساه خيرًا..
بعد قرابة الشهرين من هذه الحادثة وصل الخبر من والدي -ﻻ حرمني الله بره- يقول أن التوأم (هلال وخليفة) أخوال البنات (أنا وأختي علياء)، واللذين قد غادرا العراقي منذ ما يربو على الشهرين، قد فارقا الحياة في ظروف غريبة في الصحراء، وأن رفاتهما تم نقلها إلى مسقط، حيث ذهب التوأم إلى ظفار إلى مقر عملهما (كتيبة الجنوب) بالجيش السلطاني العماني، وبعد أن قضيا فترة الدوام تقدما بطلب إجازة سنوية، وتمت الموافقة لهما، واستلما راتبيهما وغادرا ظفار عن طريق البر، والذي لم يكن مرصوفًا بعد حينها، ويبدو أنهما قد تاها في البر الذي يمتد بامتداد شاسع، ونفذ وقود المركبة التي يستقلانها، فترجلا منها وقاما بتغطيتها ببطانية، وظلا يمشيان بحثا عن طريق مأهول أو ماء أو أي حياة حتى أنهكهما التعب والعطش، ولم يستطيعا المواصلة، فاستظلا تحت إحدى أشجار السمر، وكانا رحمهما الله متعلقين ببعضهما حد الالتصاق، ويشبهان بعضهما شبها عجيبًا، وعندما عملا بالجيش السلطاني العماني رفضا أن ينفصلا رفضًا قاطعا، فكانا في ذات السرية، وأذكر بأنني لم أنجح في التفريق بين أي منهما عندما كنت أذهب لزيارة أمي، وكنت أحبهما جدًا، فحصن العراقي وسوقها القديم هي من المعالم التي تذكرني بهما رحمهما الله، وأغلب ذكريات طفولتي التي يغلفها الحنان كانت ترتبط بأخوالي رحمهم الله..
مرت الأيام وكان الجيش يقوم بتمرين في تلك المنطقة، فإذا بهيكلين عظميين تحت شجرة سمر، أحدهما مسجى في حفرة يبدو أن الأخ التوأم الذي بقي على قيد الحياة قام بحفرها ﻷخيه، ولم يشأ أن يحثو التراب على وجه توأمه، فاتكأ جالسا على يده، ومات على تلك الهيئة، ووجد الجنود النقود والبطاقات العسكرية وجميع وثائقهما تحت رأس التوأم المسجى، فعرفوهما على الفور، وبعد التحري تم إبلاغ والدي بذلك، وﻻ أبالغ إن قلت بأن وفاتهما كانت فاجعة لكل من عرفهما، وعلي أنا بشكل خاص، حتى أنني بكيت كثيرًا ووجدت أمامي ساعتها دفترًا خططت فيه:
"أيا حمامة لو تدرين بحالي

تعالي أقاسمك الهموم تعالي..
اليوم مات خالي وخالي

الاول خليفة والاخر هلال..

ورغم ضعفها ولكنني كتبت ثمانية أو عشرة أبيات مليئة بالرثاء والحزن الدفين، وحقيقة لا أدري كيف استطعت كتابة ما كتبت وأنا لم أبلغ العاشرة من عمري حتى، وبعد عدة أيام كنت أبحث عن الدفتر ﻷنني أحب أن أحتفظ بما أكتبه أو أرسمه، وتفاجأت بأنني كتبت أبياتي المتواضعة في دفتر يستخدمه عمي الشيخ علي لكتابة نتائج لعبة الورق التي يلعبها هو ورفاقه، والأنكى أن رفاقه قاموا بنسخ الأبيات البسيطة في عدة صفحات، ورغم حزني الشديد لكنني كنت أموت خوفًا من العقاب الذي سوف ينزله عمي بي، لذلك لم أتجرأ أن أقطع تلك الورقة..

الرابط بين المنام والواقع عجيب، فهي أحاديث الروح، وقد انتبهت لهذا منذ ذلك الحين، وشتان ما بين 1978م وبين اليوم، فبالأمس كان الذهاب إلى ظفار أو غيرها من الأماكن البعيدة يعد سفرًا شاقًا يمتلئ بالمخاطر، وكان الوصول دون تعب أو نصب يعد حلما، أما اليوم فقد أصبح هذا الحلم ترف ننعم به، وأنا أشاهد في التلفاز أنباء عن طرح مناقصة إزدواجية طريق أدم ثمريت، تذكرت قصة وفاة أخوالي التوأم وسرح فكري في هذه الشبكة الطويلة من عشرات الآﻻف من الكيلومترات المعبدة، والتي تصل عمان من أقصاها إلى أقصاها، لتقلص لنا الوقت والجهد والمسافات رغم تباين جغرافية السلطنة، وهذا يحرك ألسنتنا ﻻ شعوريًا بالابتهال حمدًا لله على أن يسر لنا أسفارنا وتنقلاتنا البرية بهذه الطرق، والتي تتدرج في التحسن بمرور الأيام من خط سير واحد ومعاكس، إلى الحارتين والثلاث في كل اتجاه، وعندما كتب لي قبل عدة أعوام أن أسلك طريق "وادي حيبي الرابط بين الباطنة شمال ومحافظة الظاهرة، كنت مأخوذة بجمال المناظر وروعة البيئة العمانية الخلابة وأنا أتأمل الجبال، وأجمل الطرق المعبدة روعة هو الطريق الواصل بين محافظة الباطنة جنوب من الرستاق إلى محافظة الظاهرة، حيث التواءات الطريق تجعلك تعيش جو المفاجأة مع كل قرية تطل عليك، وذلك المزيج العجيب من التضاريس، والجدد البيض والحمر المليئة بالأسرار والمعادن التي لم تسبر أغوارها بعد، تبعث في النفس روح التأمل في خلق الله، والله نحمد على نعمته في أن قرب لنا أسفارنا، ويسر لنا طرقنا، وأدعوه بأن يلهمنا جميعا سواء القاطنين أو مرتادي الطرق أن نحافظ على آداب الطريق، وننتهج النهج القويم في عبور الطريق راجلين أو ركبانا، وأن نحسن جوار هذه النعمة العظيمة..
توقيع: قال تعالى: " فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لايات لكل صبار شكور" سبأ (19) .


تعليق عبر الفيس بوك