الموسيقى إيمان بالتغلب على الفواجع والموت
كلّما أضعت حلماً حملني حلم آخر يفتح أمامي كوة ضوء
الموسيقى وعد لا يخيب وحدس بوجود الحب في ظل واقع مرعب
اكتشاف سر الموسيقي يغني السلوك الإنساني في شتى مناحي الحياة
ناصر الطائي: معزوفة "جدل" تتسم بثراء نابع من البحث عن قانون جديد للجماليّات
أسلوب خليفة يرتبط بفن المقاومة الذي نشأ في ظل حصار بيروت
أغانيه تشبه جرأة الرجال الذين يغنون وهم يساقون إلى الموت
خميس: " أغاني مارسيل ارتبطت بالثورةوالأرض والشهداء
الرؤية - محمد قنات
أن تصارع الّلاوجود لتمنح الآخرين الأمل في الوجود من خلال أشعارك أو فنك الإبداعي الذي تقدمه فأنت تجسد الالتزام معنى ومبنى.. تقرع أبواب الصمت عبر تقاسيم اللحن ودوزنة الأوتار.. تختصر المساحات والخطب المنبرية في مقطع غنائي موسيقي جميل يحمل نبض الشارع وهم المستضعفين وحلمهم بمستقبل لا وجود فيه للظالمين.. وهذا ما فتئ يجسده الفنان مارسيل خليفة عبر اعتلاء صهوة النغم وترنيمة الروح المتدفقة لحنا طروبا يعبر عن حنين وتوق البشريّة للحرية والتزامها بقضيّة الأمة والشعور بوهدتها وآلامها..
عانق خليفة بموسيقاه بعيدًا سماوات الحرية والانعتاق والمحبة والسلام.. سالت ينابيعه كوثرا يروي ظمأ الشعوب الحالمة بغد أفضل، ويكفي أنّه صعد بالحلم والأمل العربي مراقي عالية بعد كثير من النكاسات وقتل حمامة السلام غدرا.. غنّى لدرويش وسميح القاسم ومازالت قيثارته تصدح بالمقاومة ورفض القمع وصلف الظلم.. ولأنه فنان ما زال يثير حضورًا وجدلا كثيفا في الساحة الفنية والفكرية فقد أقيمت أمس الأول، بقاعة العوتبي بمعرضمسقط الدولي للكتاب ندوة حول )جدل( الفنان اللبناني مارسيل خليفةنظّمها النادي الثقافي بالاشتراك مع دار الأوبراالسلطانية والتعاون مع اللجنة الثقافية لمعرض مسقط الدولي للكتاب، بحضور معالى الدكتور عبدالمنعم بن منصور الحسنى وزير الإعلام، وعدد من أصحاب السعادة والمهتمين.
وتضمنت الندوة عرض ورقتي عمل قدمها كل من الدكتور ناصر بن حمد الطائي ("جدل" أغنية "أنا يوسف يا أبي" لمارسيل خليفة: الحساسية الدينية والصراع من أجل الحرية والتجديد)، والكاتب عبد الله خميس (مضامين أغنية مارسيل خليفة). والذي استهل الندوة بتقديم نبذة وسيرة ذاتيةعن الفنان اللبناني مارسيل خليفة، وتعلقه بالموسيقى منذ صغره، مشيرا إلى ارتباط أغانيه بالثورةوالأرض والشهداء،متناولا الروافد الشعرية التي غذت أغاني الفنان مارسيل.
وقال خميس في ورقته إنّ بين تأسيس فرقة الميادين وانطلاق أول ألبومات مارسيل خليفة وبين لحظتنا هذه - إذ يحل مارسيل خليفة ضيفا على دار الأوبرا السلطانية مسقط- صار مارسيل خليفة اسمًا عالميًا، وحالة استثنائية في الموسيقى العربية. ففي عام 2005 سمي مارسيل خليفة فنان اليونسكو للسلام من قبل المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلم "اليونسكو".
وأضاف خميس أنّ مارسيل نال عددًا كبيرًا من الجوائز التقديرية العربية والعالمية لإبداعه الفني وإخلاصه للقضايا الإنسانية. كما تمّ منحه الدكتوراة الفخريّة من الجامعة الأمريكية في بيروت تقديرًا لمجموع إبداعاته، ومن أنشطته في السنوات الأخيرة أنّه لعب دورًا مفصليًا في تأسيس وتطوير أوركسترا قطر الفلهارمونية منذ عام 2008 كمستشار فني ومؤلف وعضو مجلس إدارة. وعزف الكونشيرتو العربي الذي ألفه خصيصًا لحفل الأوركسترا الافتتاحي في جولات الأوركسترا العالمية في جميع أنحاء العالم، كما ألف مارسيل خليفة من حينها العديد من الأعمال للأوركسترا، وقاد موسيقاه قادة أوركسترا عالميون ذائعو الصيت مثل لورين مازل وجيمس غافيغن
وتابع: عزفت مؤلفات مارسيل الموسيقية بواسطة العديد من الأوركسترات العالمية أمثال أوركسترا كييف السمفونية، أوركسترا أكاديمية بولونيا بيانكور، وأوركسترا سان فرانسيسكو لموسيقى الحجرة، أوركسترا ليفربول الفلهارمونية الملكية، والأوركسترا الفلهارمونية الإيطالية، والأوركسترا السيمفونية الإيطالية، وفي قاعات عريقة حول العالم كقصر الفنون (مونتريال)، رويال ألبرت هول (لندن)، الكونست هاوس (فيينا)، سيمفوني سبيس وميركن كونسرت (نيويورك)، مسرح بيركلي (بوسطن)، كندي سنتر (واشنطن)، قصر الأونيسكو في بيروت، دار الأوبرا المصرية، دار الأوبرا السورية، قاعة بليييل ومسرح الشانزيليزيه (ياريس)، مسرح لا سكالا (ميلانو)، قاعة باركو ديلا موزيكا (روما)، قاعة الكونسيرتهاوس (برلين)، دار أوبرا سيدني والعديد غيرها.
أمّا دكتور ناصر الطائي فقال في ورقته إن معزوفة "جدل" تتسم بثراء فريد في الموسيقى العربية نابع من البحث عن قانون جديد للجماليّات يستبدل القانون القديم. حاولت عبر "جدل" الانفتاح على أرض غير مألوفة انطلاقاً من المألوف. لقد كتبت "جدل" كفكرة موسيقية حرة إلى أقصى مداها بصرف النظر عن إمكانات العازف. لذا تطلب الكثير من التمرين بعد التأليف ووجب اكتشاف إمكانات جديدة للعود.
وتطرّق الطائي لجدل الموسيقي والغنائي لمارسيل، وكيف قاوم الانتقادات وتغلّب عليها، موضحًا أنه على الرغم من الصراعات الطائفية التي حدثت في لبنان، إلا أنه نأى بنفسه عنها؛ متمنياً لبلاده الخير والاستقرار.
وقال إنّ خليفة قدم "جدل" كمقطوعة متناغمة ومعزوفة نقاش بين المؤلف والعازفين والجمهور. ينشأ الحوار من ثراء التراث وما تحمله تحديات فرض أساليب تعبير جديدة تمزج التناغم، واللحن، والإيقاع في قالب جديد، إنه الصراع الناتج عن التحوّل من الارتجالات الثابتة إلى المدونة الموسيقية المكتوبة، ومن أحادية الصوت إلى تعدديته. وهذا في رأيي هو جوهر رحلة خليفة الجديدة لإعادة تقديم الماضي في نسيج جديد، نسيج لا يُغفل مطلقاً أصوله العربية، ومع ذلك فإنه قادر على الوصول إلى عوالم جديدة خارج حدود العالم العربي.
وأضاف الطائي في "جدل" محاولة لإعادة رسم وصياغة الموروث بقالب جديد يحافظ على الجانب الطربي ولكن يقدمه بدون كلمات حيث تنبني الحركة الثالثة، مثلا، حول ألحان مألوفة من التراث العربي وأخرى مأخوذة من مؤلفات سابقة لخليفة، وهو يقدم الصراعات في هذه المقطوعة باستخدام البعد السياسي وغير السياسي للكلمة، القديم والحديث، الماضي والحاضر، المدوّن والمرتجل، المألوف وغير المألوف، حيث نسمع ألحان "ريتا" و"بنت الشلبية" و"قدك المياس" تتحاور بحرّية تامة في مختلف حركات المقطوعة، الأمر الذي يتيح الفرصة لقراءة جديدة لمعانيها في ضوء العزف فقط. يمنحنا خليفة مستوى جديداً ونوعاً مختلفاً من الاستجابة لهذه المؤلفات بعد استبعاد الكلمات منها ومطلقًا العنان لحرية التأويل للمستمع.
وأوضح إذا كانت ثنائية "جدل" محاولة لتحرير العود من الأصوات النمطية المألوفة، فقد سار عمل "تقاسيم" على نفس الدرب باعتبار شعر درويش وسيلة جديدة تكفل حرية التأويل. تبدأ كل الحركات في "تقاسيم" كالارتجال التقليدي، لكنها سرعان ما تنتقل إلى ألحان غنائية لا تُنسى. "تقاسيم" مقطوعة غنية بالثيمات الغنائية والتي هي أغلب الظن العامل الأساسي لربط خليفة لها بأشعار درويش الغنائية. تتدفق الألحان بسلاسة وإنسيابية من مقطع إلى آخر، تتخللها تقاسيم تقليدية إمّا منفردة، أو بمصاحبة إيقاع، أو في صورة ثنائية. ومع إن روح "تقاسيم" عربية، يضفي الكونترباص عليها لمسات من موسيقى الجاز المفعمة بالحيوية التي تدفع العود للانخراط في حوار مع ثقافات وتقاليد أخرى.
كما أنّ الجدل في عمل "تقاسيم" يكمن في السؤال التالي: إلى أيّ مدى يمكننا اعتبار ألبوم "تقاسيم" يندرج تحت تصنيف التقاسيم العربية؟ هل هو الارتجال؟ الحوار؟ الجدل؟ أم الحرية من قيود القوالب؟ أعتقد أنّ هذا الغموض مقصود من خليفة، وأنها استراتيجية ابتكرها منذ أكثر من عقد واستخدمها مع مقطوعة "جدل" التي تتحدى الجمهور العربي أن "يجادل" في مضمون رسالتها ومغزاها. وكما في "جدل"، يعتمد "تقاسيم" على مجموعة ألحان محددة وارتجالات حرة، الألحان مكتوبة والارتجالات عفوية. كما يحمل العملان عنوانين يوحيان بالانطباعية ولكنهما يضمران في معانيها معاني مخالفة.
وذهب إلى أن خليفة يستخدم قالب التقاسيم كقناع يخفي وراءه شكلاً جديداً من أشكال التأليف الموسيقي التي خرجت من ظلال الشكل القديم. يشبه الشكل الجديد سلفه في الوضوح، والانسيابية، والحيوية، والمرونة الغنائية لكنه يتميز عنه بأنه يحمل قدراً أكبر من الحس الدرامي واندماجاً رائعاً مع تقاليد موسيقية وأدبية أخرى. وهذه هي السمات المميزة لأسلوب خليفة المرتبط بفن المقاومة، الذي نشأ في ظل حصار بيروت، وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وفي المنفى، للاحتفاء بالحرية التي تسمو فوق القمع، والظلم والاستبداد
وأوضح الطائى أنّ أغاني مارسيل استطاعت أن تنتشل قلوبنا من الحطام، وتخلق واقعاً جديداً يمكننا التجول فيه بحريّة. تستطيع أغانيه ببساطتها أن تحل تعقيدنا العقلي وأن تفتح لنا نافذة أمل. تنبع قوتها الرقيقة من قوة الحياة في ظل حصار العقل. جرأتها جرأة الرجال الذين يغنون وهم يساقون إلى الموت.
كما أن موسيقى خليفة، سواء كانت معزوفة أو غنائية، هي ردنا على انحدار وابتذال الأغنية العربية التجارية.. إنها موسيقى شغوفة، جادة، ملتزمة، تؤكد تشبثنا لتقاليدنا ووطننا. قال خليفة ذات مرة متحدثاً عن موسيقاه إن كل عمل جاد مخلص "يمثل ثورة"، وأن "الفنان... يكون ثورياً بكتاباته وأعماله الإبداعية." متسلحاً بموسيقاه، فجر خليفة الكلمات بثورية شاعرية مرهفة، مطلقاً العنان للموسيقى لتحلق نحو فضاءات المطلق والحرية، راسماً مبادئ المحبة والعدالة والسلام.
واختتم ورقته بقوله إنّ موسيقى خليفة هي الشجرة الخضراء وسط غابات الأسمنت المدنية، هي صرخة الثائر في زمن التخاذل، ونقطة ضوء في بحر من الظلام الذي يستبيح القتل والجوع والتكفير. أثناء سعيه للارتقاء "بالأغنيه السياسية"، استطاع أن يحرر أغنية "يوسف" من قيود القالب الموسيقي المفروضة سلفاً بشكل إنساني خلاق يسمو بها إلى المطلق، وأن يخط طريقاً جديداً في تاريخ الموسيقى العربية
وفي مداخلته الأساسية قال مارسيل خليفة إن الموسيقي هي التي تحمينا من النزعة التشاؤمية التي تغور وتغلي في قلوبنا، هي تفاؤل مثالي برفض الاستسلام بل إيمان حتي في حالة الكفر.. إيمان بالتغلب على الضعف والكبوات والمشاكل والمازق والمأسي لابل الفواجع بل الموت
وأضاف مارسيل أخبئ بعض أحلامي المتبقية وأمضي في اللعب والموسيقي والغناء وكلّما أضعت حلماً، حملني حلم آخر، وهذا الذي يضيئني، فالموسيقي هي الوعد الذي يرفض أن يخيب والحدس بوجود واقع آخر يحمل كل الحب من هذا الواقع المرعب.
ووصف الحرية بالشمعة التي لم تطفئها العواصف بل زادت في توجهها واستدرك أن ذلك السبب الذي جعلني آتي إليكم من بعيد، وأن أكبر انتصار على اليأس هو هذا الشوق المتلمع في أعماق يأسي وتحت هذا الفيض من حرارة الشوق يغمرني إحساس بالفرح
وزاد: الموسيقي هي شريكة حياتي أعيشها يومياً وأنهمك بها في كل لحظة بل هي حلمي الجميل الذي يمنح حياتي معني خاصاً ولذة نادرة.
وتابع لقد عشت الحروب الصغيرة والكبيرة والهجرة والمنفي وكانت الموسيقي تحميني وتمنحني قوة صمود الأمل لذلك لم أهزم داخلياً، كما أنّ الموسيقي تبتكر الأدوار ولا تخضع لوظيفة وليس لها يقين بالمهمات وليس لها طريقة فيزيائية كما الكائنات الأخرى.
وزاد أن اكتشاف سر الموسيقي في حياتنا من شأنه أن يغني السلوك الإنساني في شتي حقول الحياة، بل إن الشخص الذي يتميز بالحساسية الموسيقية ( بوصفها شاهد للطبيعة البشرية) يمكن أن يكون أقدر من غيره على جعل علاقته بأشياء الحياة والكون على درجة من الشفافية والرقي والشعرية بحيث يمتلك طاقة الكائن التي لاتتحمل خفته لفرط اتصاله بالجمال الروحي
واختتم حديثه بقوله: الحياة كلها بالنسبة لي ضرب من الموسيقي ولا أستطيع العمل أو النوم أو الحلم أو الكتابة إلا بحس موسيقي يصل أحيانا إلى درجة الولع..