علي بن مسعود المعشني
"حُكم العسكر" و"عسكرة الدولة" جُمل تتردد في أدبيات البعض من النُخب العربية وأتباع الحركات السياسية العربية المعاصرة كذلك. والقصد منها بالطبع وصم وبصم العسكر في الحكم بكل فشل وقمع وسلوك سياسي لا يتوافق مع مفهوم الدولة وثقافتها. وقد شاع هذا الخطاب وتجذَّر أكثر في أدبيات الحركات الإسلامية وبصورة أعمق في الخطاب الإخواني، وخاصة منذ ثورة يوليو 1953م، والتي أقصت الأخوان وفضلت القطيعة معهم بعد أن تفرقت بالطرفين كل السُبل والتوافقات المُمكنة.
وبعد الربيع المشؤوم والمسمى زورًا بالربيع العربي، وتيقن النّاس من حقيقته واستفاقتهم من هلوسته ومخدراته وسمومه الفكرية، بُعث خطاب العداء للعسكر بقوة من جديد وبطرق ألحن من ذي قبل وهي الديمقراطية والحرية والشريعة والشرعية وصناديق الاقتراع .... إلخ . فلم يعد سرًا أن للإخوان عداءً تاريخيًا مع الجيوش العربية لأنّها المؤسسات الوحيدة القادرة على الوقوف في وجوه الطامعين وتجار الدنيا والدين والأوطان، سواء كانوا من الداخل أم من الخارج، كون العقيدة العسكرية لتلك المؤسسات هي حماية الأوطان والثوابت والرموز الوطنية من أيّ مساس ومن أيّ مصدر أتى، يُضاف عليها أنّ المؤسسات العسكرية العربية تتمتع بنسيج بنيوي وهيكلي وقيادي متماسك وواضح المعالم والأهداف، ويفوق في تكوينه وتشكيله وعمقه كافة مؤسسات الدولة العربية العريقة منها والفتية، كون العلوم العسكرية في المدارس العالمية تتمتع بقواعد عامة لا تختلف في أساسياتها القيادية أو الإدارية أو الهيكلية، سوى بنكهة التوطين والعقيدة والتي تتشكل بحكم الثوابت والموروث والعمق المؤسسي والتراكم الخبراتي الميداني والنظري.
أبرز الزعماء في دولة الاستقلال العربي كانوا من العسكريين من أمثال جمال عبد الناصر وهواري أبو مدين والملك حسين والملك الحسن الثاني والعقيد مُعمر القذافي والرئيس حافظ الأسد وإبراهيم الحمدي، ناهيك عن جملة من رجال الدولة البارزين من ذوي الخلفيات العسكرية من أمثال عبد المحسن السعدون وعبد الكريم قاسم من العراق والرئيس اللبناني فؤاد شهاب والرئيس السوداني إبراهيم عبود فجميعهم في المُجمل عُرف عنهم النزعة الوطنية وطهارة اليد والتفاني والإخلاص في خدمة أوطانهم وفق المُمكنات المتاحة لهم ووفق أزمنتهم كذلك.
وفي العالم، عرفت البشرية زعامات عسكرية مُتفردة نشأت وأبدعت في إدارة أوطانها ونقلها تنمويًا وإدارتها في أزمنة حالكة بكفاءة واقتدار، من أمثال باني الاتحاد السوفيتي يوسف ستالين، والبريطاني تشرشل، والفرنسي ديجول، والأمريكي روزفلت، والصيني ماو تسي تونج والكوري الشمالي كيم إيل سونج والتركي مصطفى كمال أتاتورك، وغيرهم الكثير من الزعماء ورجال الدولة.
كل حاكم بلا شك هو ابن بيئته وثقافة مجتمعه، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، وتقوده الظروف الداخلية والخارجية ليصيغ منها هوية لسياساته ومنافع لشعبه ووطنه، ويقيم منها سدود وقاية لوطنه من المخاطر والأطماع، بغض النظر عن مرجعيته العسكرية أو المدنية. ونحن في الوطن العربي كان الأكثر كفاءة وحنكة وقدرة على القيادة والأكثر تأهيلًا هم في الغالب من العسكر، وبالتالي اجتهدوا كثيرًا في النهوض بأوطانهم وفق رؤاهم وقدرات ومقدرات ومقومات تلك الأوطان وحاجة الشعوب في كل مرحلة، وهذا ما يُفترض فهمه وتفهمه واستيعابه أولًا، وبالتالي لم يكن نصيب المدنيين من الحكام بأفضل من العسكر، مما يدلل على أنّ الممكنات المتاحة للحاكم هي من تُهديه وتوجهه، وليس العكس.
لم نسمع بخطاب في الغرب يتحدَّث عن العسكر بسوء في أيّ موقع تبوأوه أو زمان تواجدوا به، رغم أن الغرب منظومة قيم ديمقراطية عميقة ومتطورة عنّا، والسبب الرئيس أنّ من يحكمهم سيغترف من الثقافة والأدبيات التي تعارف عليها الناس في بيئتهم وتعاقبوا عليها واستحسنوها كأعراف أو قوانين أوعادات.
من هنا لم تسر في تلك المجتمعات ثقافة التنابز السياسي وتسجيل النقاط، بل احتكمت إلى النتائج المثمرة على الأرض. كما لا تتوفر بتلك المجتمعات جماعات سياسية شغلها الشاغل شيطنة الخصوم وتصيد الأخطاء وتهويلها وتجاوز المحاسن وطمسها كما هو حالنا في الوطن العربي. في فصول الربيع المشؤوم اليوم، شعرت الشعوب العربية بمدى الحاجة الماسة إلى مؤسسات عسكرية وأمنية قوية ومتماسكة ومتمرسة وذات عقيدة وطنية راسخة، ولمست الشعوب في تفاصيل الفوضى الخلاقة ما يُخطط للجيوش العربية من مخططات حروب الجيل الرابع من إنهاك إرهابي وحروب غير تقليدية وتضليل إعلامي مصاحب للنيل من العقيدة العسكرية والحاضن الشعبي لتلك الجيوش، وقد تجسد ذلك في الأزمتين الليبية والسورية وما يدور على أرض مصر اليوم وقبلهم كارثة حل الجيش العراقي ومؤسسات الدولة الحرجة. بلا أدنى شك، لولا عقيدة الجيش العربي السوري لتفككت سوريا إلى أشلاء ووفق المخطط الغربي الصهيوني، ولولا عقيدة الجيش العربي الليبي لما كان الصمود الأسطوري بأسلحة خفيفة ومتوسطة فقط طيلة ثمانية أشهر أمام قوة الحلف الأطلسي، ولولا عقيدة الجيش العربي المصري، لأبتلع الربيع مصر وجعلها أثرًا بعد عين. كما لا ننسى الصمود الأسطوري للجيش العربي الجزائري طيلة سنوات العشرية السوداء في وجه الإرهاب الأعمى، ذلك الصمود الذي حافظ على نسيج الدولة والمجتمع ووحدة التراب الوطني رغم كل الظروف والتفاصيل. هذا الربيع المشؤوم يستهدف مباشرة مفاصل القوة والإجماع في الدولة، وعلى رأسها الجيش كرمز للتضحية والعقيدة الوطنية العميقة الجامعة والراسخة، ثمّ المؤسسات الأمنية الرديفة والنسيج الوطني والموروث الثقافي للمجتمع، لتعميق الفوضى والاحتراب بالوكالة، وبما أننا في المُجمل أقطار فتية وناشئة، والمؤامرة بمنظومتها وأدواتها تفوق وعينا وقدراتنا المادية والعقلية، فلا نجد من سبيل للمواجهة والتحدي إلا عبر تعزيز قدرات المؤسسات الحرجة العسكرية منها والأمنية، والتي لا تقوم بواجباتها على الوجه الأكمل إلا بوجود حاضن ومناصر شعبي قوي على الأرض، وهذا الحاضن هو ما تستهدفه المؤامرة عبر سيل من التضليل والإعلام المُغرض والهلاوس الفكرية ودغدغة العواطف، بشعارات فارغة ووعود فضفاضة لا نفيق منها إلا بعد فقد كل شيء.
وللحقيقة نقول، بأنّ التأهيل العلمي والمحصلة المعرفية للقيادات العسكرية والأمنية في الغالب متميزة مقارنة مع التأهيل للقيادات المدنية في الأقطار الأقل نموًا. فتلك القيادات تتمتع بمهارات قيادية ورؤية إستراتيجية وتحليلية وإدارة أزمات واستطلاع وتقدير للمواقف والتخطيط العملياتي والحرب النفسية والصرامة والحسم والانضباط واتخاذ القرار وروح المبادرة وغيرها من العلوم والمهارات التي لابد لكل قائد من معرفتها أو الإلمام بها لقيادة قطاع أو تسييره، فإذا أضيف عليها مزيج من العلوم المدنية كالقانون والسياسة والإدارة والحكم المحلي كما تنهج بعض المؤسسات العسكرية العريقة في تأهيل كبار قادتها للاستفادة منهم في مواقع ومراكز مدنية كان الوضع المثالي لأولئك القادة ليصبحوا رجال دولة بكل جدارة واستحقاق.
قبل اللقاء: إذا مات العسكر في سبيل الوطن قلنا أبطال وبواسل، وإذا عاشوا من أجل الوطن قلنا طُغاة ومستبدين!! فهل قدر العسكر الموت من أجل الوطن فقط!؟
جيوشكم كرامتكم فلا تهدروها فيفترسكم كل ناعق من كل حدب وصوب فالأوطان تعيش في زمن استثنائي جدبت فيه الخيارات ومات فيه ترف الأمنيات، وجيوشنا هي حزب الوطن الكبير وحزب الإجماع الأكبر وخزين الوطنية والشرف.
وبالشكر تدوم النعم.