النّقد البنّاء مطلوب

حاتم الطائي

غير منصف من يُنكر أهميّة النقد البناء في تصحيح المسار، وإقالة العثرات..

وغير واقعي من يحاول تنزيه الاجتهاد البشري عن الخطأ؛ لأنّ مسيرة الإنسان، وكما هي مسيرة الشعوب والدول والحكومات، تكتنفها أخطاء وهي جزء من العمل والاجتهاد اليومي لابد منه، فالكمال للواحد الأحد..

ومن يبحث عن الكمال في الجهد البشري، فهو كمن يبحث عن المستحيل..

ومن استسلم للسكون، وانزوى في غياهب الركون خوفًا من النقد لن ينجز شيئًا..

ولقد أصّل ديننا الحنيف قيمة العمل وضرورة السعي نحو الأفضل كما في معنى الحديث الشريف: إنّ للمجتهد أجرين إذا أصاب وأجرًا إذا أخطأ..

إذن.. قد لا نصيب النجاح من المرة الأولى أو دفعة واحدة، ولكن يتكلل عملنا بالنجاح بعد مسيرة عمل واجتهاد، يتم خلالها معالجة الأخطاء عبر النقد البناء والهادف والمخلص.. وهذه هي رسالة النقد البناء وهي التحفيز على التطوير المُستمر بتلافي الأخطاء والاستفادة منها في تجويد الأداء وتصحيح المسار.

فالنّقد البناءُ مطلوبٌ وله أُسلوبه وطرائقه.. وليس من بينها الاستفزاز والتهكّم والسخرية ونسف الجهود والشخصنة.. بل يقوم نهج النقد البنّاء على التقييم الموضوعي عبر الكلمة الطيّبة والصدق في الطرح دون مغالاة أو فظاظة منفرة، تفقد الثقة، وتحرق جسور التواصل مع الآخر..

فالنّقد البنّاء يستقبله المَعني به بابتسامة وشعور بالعرفان والرضا؛ تقديرًا لمنطلقاته الخيّرة، وكما نقل عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" قوله: "رحم الله امرئ أهدى إليّ عيوبي"، ففي هذا تأكيد لما للنقد البناء من دور مهم في تقويم المسار، وتجاوز السلبيّات.

وعلى النقيض من ذلك، يرمي النقد الهدّام بحجر ثقيل في المياه الجارية ليعكر صفوها، ويبطئ مسيرتها بوضع العراقيل في طريق انسيابها.

فالنقد الهدام والسلبي لا يهدف إلى إصلاح وتصحيح المسار، بقدر ما يعبر عن تعمّد الأذى والإساءة وتصفية الحسابات بقلوب مريضة.

إنّ الإنسان السوي، بطبعه يحب التقدير لعمله بعيدًا عن النّقد، ولكي يُؤتي النّقد ثماره ينبغي أن يكون باتّباع أسلوب الكلمة الطيّبة والروح الإيجابية حتى يؤثر في الطرف الآخر، ويحقق الهدف النبيل المرجو منه.

كذلك لا يرفض الإنسان السّوي النقد عندما يوقن بأنّ منطلقاته خيّرة، ويهدف إلى الإصلاح، وليس دافعه التشكيك والتهوين والنيل من القدرات..

كل هذه مُسوّغات لكي لا نتسرّع في تصويب سهام النقد الجارحة لندمي بها أفئدة من عملوا بنيّة خالصة.. بل لابد من تقصّي الحقائق وعدم الانسياق وراء الأحكام المُعلّبة الجاهزة التي تطعن في ذمة هذا، وتنال من وطنية ذاك، وتشكك في مصداقية ثالث وهكذا دواليك..

ما أسهل النقد السلبي، وما أكثر مغرياته لمن يبحث عنها.. حيث إنّ من يبحث عن السلبيات فهو حتمًا لن ينظر لسواها، بل كل ما اعترضت إيجابية طريقه نحّاها جانبًا ليواصل رحلة البحث عن الثغرات؛ لتكون مادةً لنقد غير موضوعي لا يحتكم إلى منطق ولا عقل، بل تحرّكه الرغبة في إشباع نزعة النيل من الآخرين، وتسفيه أحلامهم والسخريّة من منجزاتهم..

والناقد السلبي عادة لا يكلف نفسه مشقّة البحث، أو بذل جهد في الاستيثاق من معلوماته، بل يتماهى مع مع إسقاطات سطحيّة وسهلة ليطبقها على الكثيرين في محاولة للنيل منهم.. ونقده هذا لا يهدف إلى إصلاح حال، أو تقويم معوج بل فقط يسعى بين النّاس في محاولات مكشوفة لاغتيال شخصية هذا، وإثارة سحابة من الشكوك حول موقف آخر رغم أنّ إلمامه بالموضوع مثار الانتقادات قد لا يتجاوز المعرفة السطحيّة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع..

وأسوأ أنواع النُقّاد السلبيين، أولئك الذين يبتغون تحقيق مصالح خاصة ولا يهمه في سبيل ذلك من يطعنهم بسهام نقده المسمومة، أو يسقطون ضحايا إشاعاته المُغرضة؛ إلا أنه يغيب عن أمثال هؤلاء أن إسقاطاتهم السلبية سترتد عليهم يومًا؛ ليغرقوا في بحور الندم جراء افتئاتهم على الناس وإثارة الشكوك حول مواقفهم وإنجازاتهم..

ونربأ بالمستهدفين بسهام النقد السلبي من العاملين المخلصين أن يستسلموا للاستفزازات؛ بل عليهم تجاوز المُثبّطات ومواصلة تطوير الأداء باعتبار أنّ الإنسان الإيجابي واثق من نفسه ومشغولٌ بتجويد عمله إلى الأفضل، ولا يجد الوقت لصغائر الأمور.. مما يفوّت الفرصة على أصحاب العقول السلبيّة، ويئد مخططاتهم الرامية إلى زرع الإحباط في نفوس الآخرين..

لقد جاء في القرآن الكريم "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". فهنا دعوة إلى استخدام الكلمة والمفردة الكريمة التي تلاقي لدى الآخر صدًى طيبًا، فيُنصت ويستجيب. وكذلك الحال مع النقد البناء، حيث يجد أذانًا صاغية، وضمائر يقظة؛ تتلقف ما يلقى إليها من نصائح وملاحظات بعيدة كل البعد عن التجريح والشخصنة.. النقد الذي لا يجرد سيفًا على الرقاب، ولا ينصب فخاخًا في طريق المنتقدين.

ما أحوجنا في هذه المرحلة من تطورنا التنموي والحضاري إلى العمل على تنمية أنساقٍ متقدمة من التفكير الإيجابي؛ التي تنشد النجاح وتسعى له، وتعمل على إشاعة التفاهم والتعاون وبناء جسور الثقة، وإزالة عوالق التفكير السلبي من حول شجرة الإبداع، حتى تنمو أفرعها لتلامس سماء التطوّر والتقدم، ولتمتد جذورها عميقًا داخل التربة العمانية العامرة بالأصالة ومكارم الأخلاق.

تعليق عبر الفيس بوك