حاتم الطائي
نستطيعُ -وبكلِّ ثقة- وَصْف الموازنة العامَّة للدولة للعام 2015، بأنَّها ميزانيَّة مفاجآت؛ لأنها جاءتْ -وخلافا للمتوقع- حافلةً بأرقام الإنفاق التنموي، وواعدةً بنسب النُّمو المتوقَّعة لاقتصادنا الوطني، والمقدَّرة بنحو خَمْسَة بالمائة خلال السنة الماليَّة.
... فاجأتْ الميزانيَّة الجميعَ ممَّن كانوا ينتظرُوْن ميزانيَّة تقشفيَّة؛ يتراجعُ فيها الإنفاقُ على مشاريع التنمية، وتتضاءل فيها فُرص النُّمو؛ وذلك بسببِ تراجعِ أسعار النِّفط.. هذا التَّدهور السعري الذي خَلَق حالةً من الإرباكِ خلال الفترة الماضية، خاصَّة وأنَّه شَهِدَ تراجعًا حادًّا قارب الـ50% عمَّا كان عليه في السنوات الأخيرة، وهو أمرٌ كان شديدَ الوطأة على الدُّول النفطيَّة التي تصلُ مُساهمة النفط في اقتصاداتها إلى أكثر من 80% -مثل: رُوسيا، وفنزويلا، وليبيا...وغيرها من الدُّول المتخمة بالذَّهب الأسود، الذي ترنَّحت قيمته السوقيَّة؛ ممَّا ألقى بظلالٍ قاتمةٍ على الوَضْع الاقتصاديِّ لتلك الدُّول، وانعكسَ سلبًا على ميزانيَّاتها للعام الجديد.
ضِمْن هذا المشهد العام، جاءتْ الموازنة العامَّة للسلطنة للعام 2015، لتحملَ في طيَّاتها -كما أسلفنا- مفاجأة للمحلِّلين الاقتصاديِّين.
وتكمُن عناصرُ الفُجَاءة في كَوْنِها جاءتْ كأكبر ميزانيَّة في تاريخ السَّلطنة؛ فيما شهدتْ مُعْظم الموازنات العالميَّة -خاصَّة في الدُّول النفطيَّة- انكماشاً وتراجعاً بنسب مُتفاوتة.
ومن الإشراقات التي حفلتْ بها بُنود الإنفاق في الموازنة الجديدة: التركيزُ على البُعْد الاجتماعي؛ الأمر الذي يعكسُ التزامَ الحُكومة بتحقيق أهداف التنمية، خاصَّة في شقِّها المتعلِّق ببناء الإنسان. وفي هذا الصَّدد، زاد الإنفاقُ على قطاعات: التعليم، والصحَّة، والإسكان، والتدريب...وغيرها من القطاعات ذات المساس المباشر بحياة المواطن، وتُعْنَى بتطويره ورقيِّه.
ويُجسِّد الاهتمامُ بالبُعْد الاجتماعيِّ في الموازنة الجديدة، الاستمرارَ في تنفيذ واستكمال مشاريع البُنى الأساسيَّة في قطاعات: التعليم، والصحَّة -والخدمات؛ من: مُستشفيات، ومدارس، ومرافق الكهرباء والمياه والصَّرف الصحي- وفقاً للبرامج الزمنيَّة المحدَّدة.
... إنَّ تخصيصَ مبلغ 3 مليارات ريال -وما نسبته 21% من إجمالي الإنفاق العام للتعليم- شاهدٌ على أنَّ مسيرة التنمية ماضية لتحقيق أهدافها للارتقاء بإنسان هذا الوطن. ونأمل أنْ تنعكسَ هذه الاعتمادات الكبيرة لقطاع التعليم على تطويره، وتجويد مُخرجاته؛ باعتباره الأساسَ الذي تقوم عليه النَّهضة، وتستند إليه الحضارة.
والتطويرُ بهذا القطاع، يعتمدُ على عامليْن أساسيَّيْن؛ هُما: الانتشار، والجودة؛ ويتحقَّق هذان العاملان بافتتاح المدارس الجديدة والمجهَّزة بالوسائل التعليميَّة العصريَّة، والإعداد الأمثل للقائمين على العمليَّة التعليميَّة؛ حتى تُواكب مُخرجاتُ التعليم الاحتياجات التنمويَّة، وتكون قادرة على مُواجهة التحدِّيات المستقبليَّة.
وهذا يَقًوْدُني إلى الحديثِ عن ضَرُوْرة الارتقاء بالكفاءات العُمانيَّة في جَميع المجالات، وتمكينهم في المجال الذي يختارون الإبداعَ فيه، وتطوير الموارد البشريَّة؛ انطلاقاً من مَبْدأ أنَّ الإنسانَ هو هدف التنمية وأساسها، وأنَّ بناءَ الإنسان يكون بالتعليم والتنوير.
ونقول -استطراداً فيما يتعلَّق بمخصَّصات التنمية الاجتماعيَّة في الموازنة الجديدة- إنَّه ومن واقع الأرقام لقد حَظِيَ قطاعُ الصحَّة بنصيبٍ غير قليل تفُوْق نسبته الـ11% من إجمالي الإنفاق العام، ويتضمَّن في تفاصيله تطويرًا نوعيًّا لهذا القطاع الحيوي؛ من خلال افتتاح وتشغيل مجموعة المستشفيات الجديدة والمراكز الصحيَّة.
ومن المعروف أنَّ هذا القطاع يُواجه مجموعةً من التحدِّيات الجوهريَّة في ظلِّ تنامي الضَّغط على الخدمات الصحيَّة؛ بسبب: زيادة الكثافة السكانيَّة، وانتشار الأمراض ذات العلاقة بنمط الحياة الاستهلاكي، والرُّكون إلى الكسل وقلَّة الحركة كالسكري وضغط الدم...وغيرهما من أمراض العصر؛ وذلك لضَعْف الوَعْي الصِّحي بشكل عام؛ مما يُحتِّم تبنِّي برامجَ مُتكاملة لرفع الوعي؛ لأنَّ من شأن ذلك الحد من الإصابة بالكثير من الأمراض؛ تطبيقا لمقولة "الوقاية خيرٌ من العلاج".
وسيرًا على نَهْج الاهتمام بالبُعْد الاجتماعي؛ تتضمَّن الموازنة إنفاقا مقدَّراً على الإسكان بمبلغ 2.3 مليار ريال؛ ويشمل: بناء المساكن، والقروض الميسَّرة. ومن أهمِّ المشاريع في هذا الصَّدد: إنشاء مدينة لوى الجديدة.
وتكتملُ منظومة الاهتمام بالبُعد الاجتماعي في الموازنة، بعدم المساس بمخصَّصات الدَّعم، والإعفاءات التي يُقدَّر إجماليها بـ1.8 مليار ريال. وإنْ كُنتُ أرى أنَّه ينبغي التوافق على صِيْغة لرفع الدَّعم عن الديزل لتوحيد سعره مع الدُّول المجاورة، وتفادي العديد من التجاوزات المترتِّبة على السِّعر الحالي؛ ومن ذلك: عمليَّات التهريب المستمرَّة للديزل برًّا وبحرًا؛ مما يُكلِّف خَزَانة الدَّولة مئات الملايين من الرِّيالات سنويًّا.
ولا تقتصرُ الإشراقات في الميزانيَّة الجديدة على الجانب الاجتماعي، بل تعدَّتها إلى بقيَّة بُنود الصَّرف التي ظلَّت مُحتفظة بمستوياتها -خاصَّة للمشاريع المخطَّط لها، وتلك قَيْد التنفيذ- مما يُؤكِّد التزامَ الدَّولة الجاد باستمرار مسيرة التنمية رغم التحدِّيات والظُّروف غير المواتية المتعلِّقة بأسعار النِّفط.
ويأتي إعلانُ الحكومة عن المُضِيِّ قُدَماً في مَسيرة التخصيص خلال السنوات المقبلة بطرح أسهم عددٍ من الشَّركات الحكوميَّة، مُؤشِّرا آخر على سلامة التوجُّه الاقتصادي؛ من خلال: الحرص على إشراك القطاع الخاص في مَسِيْرة البناء من جهة، وتوفير مداخيل إضافيَّة للحكومة لمقابلة التزاماتها الآنيَّة والمستقبليَّة من جهة أخرى.
وهُنا؛ تنبغي الإشارة إلى أهميَّة حَوْكمة الشركات الحكوميَّة؛ حمايةً للمال العام، وتطويراً لأداء هذه الشَّركات، وتعزيزاً لتنافسيَّتها؛ حتى تحقِّق هذه الشركات قيمةً مُضافةً للاقتصاد الوطني، خاصَّة وأنَّنا -مُستقبلا- لا نودُّ للدولة أنْ تكونَ مُنافسة للقطاع الخاص، بل راعية له، ومُشرفة على أدائه.
وفي الختام.. يبقى القول بأنَّه ورغم ما حَوَتْه الموازنة الجديدة من مُؤشِّرات واعدة، إلا أنَّ قضيَّة التنويع الاقتصادي تظلُّ من أهمِّ التحدِّيات التي تُواجه الاقتصاد العُماني في السَّنوات المقبلة، والتي تتطلَّب تضافرَ الجُهود، والتفافَ المجتمع حَوْلها -من مَسْؤولين، وقطاع خاص، ومواطنين- من أجل إنجاح أهدافها، ولأجل تحقيق التنمية المستدامة. ولابدَّ من تحفيز القطاع الخاص ليكونَ شريكاً حقيقيًّا في هذه التنمية، ورَبْط قطاع المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة مع مشاريع التنويع الاقتصادي؛ ليكون هُناك نموٌّ مُتبادلٌ وضخٌّ للدِّماء الجديدة في اقتصادنا الوطني.