العودة إلى إفريقيا

حاتم الطائي

مَا إنْ تحط بكَ الطائرةُ في مطار بوجومبورا -عاصمة بُوروندي- حتَّى تتزاحم الأسئلةُ في ذِهْنك؛ فارضةً حُضورَها الجَدَلي: كيف وَصَل أسلافُنا -ومُنذ أكثر من قرنين من الزمان- إلى قلب إفريقيا، إلى منطقة البُحيْرات العُظمى والكونغو؟

نعلمُ جميعًا عن التاريخ العُماني في شرق إفريقيا، والذي يعُوْد إلى ما قبل الإسلام، إلا أنَّ المشهور أنَّ وُجُود العُمانيين في تلك الأصقاع كان مُقتصرا على السَّواحل، ولم يتوغَّلوا كثيرا في الداخل الإفريقي المسيَّج بالغابات الاستوائيَّة، والمحفوف بمَخَاطر الدُّروب الشَّائكة في ذلك الوقت. إلا أنَّ ما لا يَعْرفه الكثيرون: أنَّ أسلافَنا وَصَلوا بالفعل إلى عُمق الدَّاخل الإفريقي، وتوغَّلوا آلاف الكيلومترات فيه، وهذا يُؤشِّر -بجلاء- على روح المغامرة والاستكشاف التي كان يتمتَّع بها هؤلاء، والتي تُعدُّ بمثابة الدَّافع الذي قاد خُطاهم في المجاهل الإفريقية؛ ليكونوا روَّادًا في اكتشاف مغاليق القارة السَّمراء، واستكناه أسرارها، ولم يُثنهم عن ذلك عِظَم المخاطرة وما يكتنفها من أهوال جرَّاء اختراق الغابات الموحشة، والمأهولة بالحيوانات المفترسة والشعوب البدائية؛ لدرجة أنَّ المكتشفين اللاحقين من الأوروبيِّين استعانوا بخبرات أسلافنا، وتتبَّعوا آثارهم؛ للوصول إلى العُمق الإفريقي.

وفي مَسِيْرهم صَوْب الدَّاخل الإفريقي، كان أجدادُنا رُسلَ سلام، وحَمَلة مشاعل تسامح؛ فكان أنْ حظوا بالترحاب مِنَ المجتمعات التي وَفِدوا إليها للتَّعايش معها، وكانوا مَحلَّ ثقتهم؛ مما سهَّل مُهمَّتهم الحضاريَّة، ويسَّر لهم سُبل الاندماج في تلك المجتمعات، وتقديم مُساهمتهم الحضاريَّة في الزراعة والتجارة والعلوم...وغيرها من صُنوف التقدُّم.

... استقرَّ العُمانيون -في مَرْحلة مُبكرة من التاريخ- في السَّواحل الشرقية لإفريقيا؛ مُؤسِّسين تجمُّعات سُكانيَّة -شكَّلت فيما بعد مَرَاكز تجاريَّة مُهمَّة- وقد دعَّم التَّبادل التجاري بين عُمان وشرق إفريقيا أواصرَ الرَّوابط بين المنطقتين.

وشكَّل القرن السادس عشر مُنعطفا مُهمًّا في تاريخ الرَّوابط بين عُمان وشرق إفريقيا؛ حيثُ ظَهَر على البحار الغُزاة البرتغاليون، ومدُّوا نُفوذهم الاستعماري على السواحل الإفريقيَّة -ومنها مُوزمبيق وكلوه- إلا أنَّ ظُهور دولة اليعاربة حدَّ من نفوذهم، وانتهى بطردهم من شرق إفريقيا.

وبلغ الحُضور العُماني في شرق إفريقيا ذروته في عَهْد السيد سعيد بن سلطان مؤسِّس الإمبراطورية العُمانية في القرن التاسع عشر؛ حيث تطوَّرت زنجبار في عَهْده بعد أن قام بإدخال زراعة العديد من المحاصيل -كالقرنفل، والسمسم، وجوز الهند، والمانجو- كما وَصَلتْ في عهده السفينة "سلطانة" إلى الولايات المتحدة الأمريكية حاملة أول سفير عربي إليها.

ويُمكن القول بأنَّ العُمانيين مَع بداية القرن التاسع عشر، بدأوا في الانتشار في عُمق القارة الإفريقية، مَدْعومين بخبراتهم الواسعة، وحُكم قوي على السَّواحل، وازدهار التجارة بين شرق إفريقيا والعالم؛ حتى وصلوا إلى منطقة البحيرات العظمي؛ في رحلات تهدف إلى التجارة والاستقرار؛ عبر المصاهرة والانسجام مع السكان الأصليين هناك.

ويُجمع العديد من المؤرِّخين على أنَّ العُمانيين هُم أول من اكتشف البحيرات الكبرى رغم ادعاءات بعض المكتشفين الغربيين -من أمثال: ليفنجستون، وستانلي، وبورتون، وسبايك- لأنهم لم يكونوا ليصلوا إلى هذه المناطق دُون دعم العُمانيين لهم. وعندما وصلوا إلى البحيرات، كان العُمانيون قد سَبُقوهم إليها بعقود. بل إنَّ المكتشفين الأوروبيين وَصَلوا تلك الأصقاع بتوصيات من السَّيد سعيد بن سلطان الذي قام بدعمهم وحمايتهم.

لكنَّ المفارقة أنَّهم في كتابتهم للتاريخ نَسَبوا لأنفسهم فضل الاكتشافات؛ ليبخسوا العُمانيين حقَّهم المشروع.. وهذا يُلقي على كاهل دارسي التاريخ العُماني مسؤوليَّة إضاءة هذا الدور المشرق للعُمانيين؛ وبالتالي دَحْض ما يحاول أن يُشيعه البعض من أمثال هؤلاء عن دور مزعوم للعُمانيين في "تجارة الرقيق"، رغم أنَّ هذا الزَّعم الباطل تفنُّده حقائق الاجتماع والتاريخ؛ حيث إنَّ العُمانيين تصاهروا مع الأفارقة بشكل واسع، وتعايشوا معهم؛ باعتبار أنَّهم جاءوا إلى إفريقيا كروَّاد حضارة، ورُسل محبة وليسوا غُزاة.

... إنَّ خطاب الاستشراق الغربي يعملُ على تشويه الصُّورة العربية في شرق إفريقيا؛ لأسباب تتعلق بالهيمنة والسيطرة، وتحسين صورة الاستعمار الغربي.

واليوم.. ومِنْ هُنا، من على ضفاف البحيرات العظمي، وبالتحديد من بُوروندي التي تقع على الضفة الشرقية لبحيرة تنجانيقا، أستعيدُ المشهد الحضاري لأجدادنا؛ من خلال منصَّة المؤتمر الدولي "الحضارة والثقافة الإسلامية والدور العُماني في دول البحيرات العظمى الإفريقية"، والذي أُسدل الستار على أعماله قبل يومين.. أسلافنا الذين وصلوا إلى هذه البلاد الماطرة الخضراء من أرض إفريقيا، وها نحن اليوم هُنا على خُطاهم؛ لتوثيق علاقاتنا بشكل أفضل مع دول البحيرات العظمى؛ ومنها: بوروندي، التي يُمكن أنْ تشكِّل مُنطلقا متجدِّدا لعلاقات أكثر رُسوخا وتجذُّرا في المجالات كافة، خاصة الاقتصادي منها؛ حيث تتوافر عواملها في الأراضي الزراعية الخصبة، والعمل على توجيه دفة استثماراتنا الخارجية إلى هذه الدول التي تربطنا بها علاقات تاريخية مُوغلة في القدم، خاصَّة في الجوانب الاستثمارية التي تخدم أمننا الغذائي.

... إنَّ عَوْدتنا إلى إفريقيا هذه المرة، ينبغي أنْ تكون عَبْر بوَّابة الاقتصاد؛ لما تزخر به هذه القارة البكر من إمكانيات واعدة، يُمكن أن تخدم اقتصادنا الوطني.

تعليق عبر الفيس بوك