رسالة عمان للعالم

حاتم الطائي

تحتم أجواء الاصطراع القيمي، وتفشي نزعات الصراعات في عالم اليوم، العمل على إيجاد طريق ثانٍ؛ يضمن لسالكيه عدم التعثر في وهاد الخلافات، أو السقوط في قيعان المماحكات، التي لا تؤدي سوى للتمزّق والتشرذم والصدام الحضاري، الذي سبق وأن توعد به البشريّة المفكر الأمريكي صموئيل هنتجتون وغيره من المحافظين الجدد، ناقضين بذلك العهد الإنساني القائم على مبدأ التعايش والتكامل منذ بدء الحضارات، ومصادمين لحقيقة أنّ الأصل في العلاقات الإنسانيّة هو التعايش السلمي، وما عداه استثناءات لا حكم لها في القاعدة العامة..

ولأجل عالم مسيج بمفاهيم السلام، ومزدان بقيم الوئام، تتابعت الرسالات السماوية، وتعددت النظريات الوضعية منذ فجر الحضارات..

أمّا من يعتقدون بحتميّة صراع الحضارات فهم وعلى مدى التاريخ كانوا قلة، ونشازًا يُغرّد خارج سرب الوئام الإنساني، والمشترك البشري..

وتأتي ندوة "القيم المشتركة في عالم التعددية الثقافية "التي تنطلق أعمالها اليوم في نسختها الثامنة والعشرين بمسقط، بتنظيم من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، اتساقًا مع الخطاب العماني على مرّ العصور، والداعي إلى إعلاء قيم التواصل الحضاري بين الشعوب والتعايش بين الأمم..

ورسالة عمان إلى العالم تتعزز يومًا بعد يوم، منسجمة مع ذاتها في خطابها نحو الآخر؛ والحافل بالدعوات إلى التلاقي على أرضية صلبة للفهم المشترك، وتمهيد الأجواء لسيادة قيم التعاون والتعاضد تعزيزًا للمشترك الإنساني، وتدعيمًا لروح التفاهم وإسهامًا في التقريب بين الثقافات، مما يشكل استثمارًا واعيًا لمكانة عمان واحة للتسامح في عالم يموج بالصراعات ويعج بالنزاعات..

ومؤتمر القيم المشتركة؛ والذي يهدف في نسخته الحالية إلى توطيد أركان صرح التبادل الثقافي بين الثقافة اللاتينية والثقافات الأخرى، وتعميق قضايا الحوار والتلاقح المعرفي بين مختلف الثقافات العالمية؛ يسعى إجمالا إلى ترسيخ رسالة عمان كحاملة لراية التسامح، وداعية لتجذير قيم التعايش.. وهي رسالة أصيلة، وليست طارئة أو من قبيل الصدفة التاريخية.. فالتسامح العماني له جذوره التاريخية، كجزء من منظومة قيميّة متكاملة تتسم بها الشخصيّة العمانية، التي ومنذ مرحلة مبكرة من التاريخ، تجذّرت فيها قيم التعايش المشترك مع الشعوب الأخرى: من الهند وحتى شرق إفريقيا وموانئ آسيا وبندر عباس والبصرة، ليصبح العمانيون رسلا لهذه القيم، يبشرون بها، ويعيشونها في واقعهم وأسفارهم، علاوة على حرص متأصل لتبادل المصالح على المدى البعيد، فكان أن حققوا نجاحًا كبيرًا في ذلك؛ إتكاء على القيم الإيجابيّة كالصدق والأمانة، والثقة، وحسن الظن، واحترام تقاليد الآخر المختلف وغيرها من أعراف وتقاليد بلوروا من خلالها رسالتهم للعالم.

وعندما جاء الإسلام، أضاف مسحة سماوية إلى هذه السمات الفريدة، والمتجذّرة في الشخصيّة العمانية التي تماهت وانسجمت فطريًا مع الدعوة الإسلامية، حيث بادر العمانيون إلى الإيمان بالرسالة، بل آمنوا بالرسول قبل أن يروه، فكان أن أكرمهم بدعائه لهم صلى الله عليه وسلم:" طوبى لأهل عمان، آمنوا بي ولم يروني".

عزز الإسلام بمبادئه السمحة قيم وأخلاق العمانيين، التي كانوا ينشرونها في أنحاء العالم من ريادتهم للبحار المفتوحة، مقدّمين نموذجًا أصيلاً في تعاملاتهم مع الآخر على مدى قرون من سيادتهم على المحيط الهندي.

ولم تكن هذه المنظومة القيمية معزولة في جزر تاريخية، بل كانت تتناقل عبر الأجيال، وتورث خلال الحقب، وصولا إلى عهد النهضة العمانية الحديثة التي يقود سفينتها ربانها السلطان قابوس بن سعيد الذي كرّس بعثًًا جديدًا لهذه المنظومة القيمية، وأضفى عليها بعدًا منهجيًا، للوصول بها إلى آفاق أرحب من خلال خطوات مدروسة تقدم للعالم نموذجًا عمانيًا متفردًا في التسامح والوئام والتعايش، والوفاء بالعهود وتعظيم المشترك الإنساني، فكان من نتاج ذلك أن أصبحت عمان مضرب المثل عندما يتعلق الأمر بالتسامح والتعايش واحترام القيم الإنسانية المشتركة..

وقد هيأ كل هذا بلادنا إلى أن تقوم بدور محوري في إصلاح ذات البين بين الفرقاء إقليميًا وعالميًا، في توظيف واعٍ لرصيدها الحضاري المرتكز على ما تحظى به من قبول في الأوساط العالمية كافة..

والحال هكذا؛ ليس بمستغرب أن تنهض الدبلوماسية العمانية بأدوار مشهودة في نزع فتيل الصراعات، و وأد شرارات الحروب، انسجامًا مع رسالتها التي تؤمن بضرورة سيادة السلام وإشاعة المحبة بين الشعوب والأمم.

ومن الجهود المنهجيّة لتأصيل الإرث القيمي للشخصية العمانية، مجلة "التسامح" والتي تغيّر اسمها لاحقا إلى "التفاهم"، وهي إصدار فكري يعبّر عن الروح العمانيّة المشرّبة بهذه القيمة السامية، والعمل على نشر القواعد المشتركة للتعايش بين الشعوب، بعيدًا عن الصراعات الضيّقة التي لا تفضي إلى شيء سوى الدمار والخراب..

كما ظلّ معرض التسامح الديني يطوف العالم، لإبراز ما يحفل به ديننا الحنيف من قيم تحض على التعارف والتعاون بين الأمم، ولتصحيح الصورة المغلوطة التي يحملها البعض عن الإسلام؛ بسبب المحاولات المغرضة للربط بينه وبين الإرهاب، نتيجة لممارسات من قبل بعض المحسوبين على هذا الدين رغم أنّ أفعالهم لا تمت إليه بصلة.

لقد حصّنت المنظومة القيميّة أبناء عمان من الوقوع في براثن موجات التطرّف، التي اجتاحت عالمنا العربي؛ لأنّهم أدركوا مبكرًا قيم العدالة، وعدم جواز إلحاق الظلم بالآخر المختلف، ولأنهم مقتنعون بأنّ غاية الدين إشاعة الخير والرحمة والتسامح؛ بعيدًا عن رماح التطرّف المسمومة.

لذلك نأوا بأنفسهم عن الفتن التكفيرية، فكسبوا محبة العالم وثقته.. بل وأصبحت عمان محط الأنظار للتقريب بين الفرقاء، وإذابة جليد الخلافات بين المتخاصمين..

ويبقى القول؛ إنّه في عالم اليوم بظروفه المتقلبة، علينا أن نعض على قيمنا بالنواجذ، حتى لا تكون عرضة للتأثر بالمعطيات السالبة، التي تعج بها الساحة الإقليميّة، والفضاءات الإسفيرية، وأن نعمل على دعم منظومتنا القيمية، وتعظيم نتائج تواصلنا مع العالم لخدمة نهضتنا العمانية بالاستفادة من معطيات العصر دون التفريط في إرثنا القيمي الخالد.

تعليق عبر الفيس بوك