العودةُ إلى مسقط

 

 

ليس من قبيل المُصادفةِ أن تتضمن الكلمةُ السَّاميةُ لجلالةِ السُلطانِ المُعظّمِ لأبناء شعبه الأوفياء، التّأكيد على أنّ النَّهضةَ العُمانية تسير وفق الثَّوابتِ التي تمّ إرساؤها منذ اليومِ الأولِ لها، الأمر الذي يسّر للمسيرة العُمانية أن تتقدَّم بثقةٍ نحو أهدافها المرسُومةِ وتحقق التنميةَ المنشودةَ وسط منطقةٍ تُحيط بها الأزماتُ السِّياسيةُ والاقتصاديةُ من كل حدبٍ وصوبٍ.

ومن الثوابتِ التي قامت عليها هذه النَّهضةُ، مرتكزات السِّياسة الخارجية المُستندة إلى الحكمةِ والتعقلِ وعدم التدَّخل في شؤون الغير وفي ذات الوقت عدم السماح للآخرين بالتدخل في الشأن العُمّاني، وهي سياسةُ خارجيةُ تستمد توجهاتها من رؤى سديدة، ونظرة ساميِّة وعميقة لجلالةِ السُلطانِ تضع ضمن أولوياتها الاستقرار الإقليمي، وتُراعي سيادة السلم العالمي..

الأمر الذي هيأ للدبلوماسيّة العُمانية القيام بأدوارٍ إيجابيةٍ على صعيد حل الإشكالات السياسيِّة الصعبة التي استعصى حلُها على الآخرين، والإسهامُ في إطفاء الصراعات والحدِّ من النزاعات التي تهدد أمن واستقرار المنطقة .. والأمثلة أكثر من أن تحصى..

ويندرج اجتماع مسقط اليوم بين كلٍ من وزير خارجية الولايات المُتّحدةِ الأمريكية ووزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمستشارة الخاصة بالمحادثات مع إيران في الاتحاد الأوروبي، في إطار المفاوضات بين مجموعة (5 + 1) والجمهورية الإسلامية الإيرانية بشأن الملف النووي الإيراني، يندرج في إطارِ المساعي العُمانية الحميِّدة، لتجنيب المنطقةِ ويلاتِ الحربِ، والانزلاق نحو شفا الدمار الذي كان من الممكن أن تتسبب فيه هذه الخلافات الحادةُ خاصةً بعد ما يقارب 30 عاماً من انعدام الثِّقةِ بين الطرفين، وقد بذلت الدبلوماسية العُمانية جهوداً مقدرة تكللت بالنجاح بإعلان مفاوضات مُباشرة بينهما.

وقد بذل صاحبُ الجلالةِ السُّلطان قابوس جهوداً شخصيةً مقدرةً في فتح قنوات الاتِّصال المباشر بين إيران والغرب، حيث زار جلالته طهران قبل أكثر من عام، فيما زار الرئيس الإيراني حسن روحاني السّلطنة في مارس الماضي.. وقد أثمر ذلك عن إشاعةِ أجواءِ الثقةِ والاستعدادِ للجلوس إلى طاولة التّفاوضِ بغية الوصول إلى حلٍ لمشكلة الملف النووي واعتماد الحلول السِّياسية لهذه القضية بعيدًا عن لغة التهديدِ والوعيدِ التي كانت ستقُود المنطقةَ إلى مواجهة لا يعلم أحد النتائج الكارثية التي كانت ستترتب عليها..

وفي إطار هذا الدور النشط للدبلوماسية العُمانية، يمكن قراءة استضافة السّلطنة لهذا الاجتماع المهم للسلم العالمي ولاستقرار المنطقة..

وقد يتساءل البعض لماذا مسْقط .. ولماذا تلجأ أطراف التفاوض إلى عمان كلما تعقدت الأمور، وتأزمت مسارات التفاوض، وانسد أفق الحوار..؟

والإجابة واضحةٌ وصريحةٌ، فالدور الدبلوماسي العماني لا يخفى على أحد في التقريب بين وجهات نظر الفرقاء، وقد سبق لمسقط أن استضافت المفاوضات التي مهّدت إلى التوصل لاتفاق إطاري قبل أكثر من عام، ونجحت في التقريبِ بين وجهات النّظر الإيرانيةِ والأمريكيةِ، حيث إنّه وبموجب هذا الاتفاق قلصت إيرانُ العملَ في بعضِ المواقعِ النوويةِ مُقابل رفعٍ محدودٍ للعقوبات الغربية المفروضة عليها..

وكذلك لأنّ قيادة عُمان، محل ثقة الأطراف المتحاورة، فقد سبق أن طلب كل من الطرف الإيراني والطرف الأمريكي الوساطة العُمانية لتليين المواقف وكسر الجمود الذي أصاب مفاصل المفاوضات في مراحل سابقة.. وهذه الثقة لم تأتِ من فراغٍ بل بناءً على تاريخٍ طويلٍ من التّعاطي العُماني الإيجابي مع القضايا الإقليمية والدولية، وتقديرًا لإرثٍ حضاري في التعامل مع العالم، وقد انعكس ذلك على الشخصية العُمانية وأصبح من أبرز تجلياتِ وسماتِ هذه الشَّخصية، المعروفة بالاعتدال والوسطية والهدوءِ والابتعاد عن موجات التطرّف والمغالاة التي هبَّت على المنطقةِ، والنأي عن الانفعالات العاطفية والشعارات الجوفاء.. تعوَّد العمانيون على العمل في صمت إخلاصًا لمبادئهم وإيمانًا بثوابتهم، كما تعودوا الإنجاز دون جلبةٍ أو ضوضاء.. ليركزوا على البناءِ والتّنميةِ وحمل رسالة تحقيق التقارب بين الشعوب، وإذابة جليد الخلافات بين المتخاصمين عبر مساعٍ حميدةٍ تُخاطب العُقول، وتعتمد الصدق والمباشرة مما أكسبها مصداقية عالية، وكسبت ثقة العالم..

لهذه الأسباب - وغيرها كثير - يحتشد في مسقط، ممثلو الدول الكبرى ليتباحثوا مع إيران حول سبل التوصل إلى اتّفاق بشأن برنامجها النووي، والكل مطمئن إلى نزاهة المُضيف، وصدق نواياه وحرصه على تحقيق هذا الهدف، دون أجندات خفية أو أهداف سرية..

تستضيف مسقط اليومَ اجتماعًا حاسمًا لمفاوضات الملفِ النووي الإيراني بين إيران والقوى العالمية الست، وهي تضعُ نصب عينيها تهيئة كافة السبل لإنجاح هذا الاجتماع بتقريب الشقة بين الفرقاء بغية بلورة ملامح اتّفاق يجري التوصل إليه قبل انصرام الموعد النهائي في الرابع والعشرين من نوفمبر الجاري ..

مرة أخرى يعلُو صوت العقلِ الذي طالما ميَّز الدبلوماسية العُمانية، خاصة وأنّ منطقتنا اليوم تعصف بها الأزمات والحروب.. ومرة أخرى تتّجه أنظار العالم صوب مسقط، في انتظار تجلٍ آخر للحكمة، وميلاد إنجاز جديدٍ للدبلوماسية العُمانية يخدم السَّلام العالمي، ويصون مُقدَّرات دول وشعوب المنطقة.

تعليق عبر الفيس بوك