السويد.. وعيٌ يتشكل بعدالة القضيَّة

حاتم الطائي

أدركَ الفلسطينيون في السَّنوات الأخيرة أنَّ عليهم أنْ يتحرَّكوا شمالاً وغرباً؛ بحثاً عن الدَّعم لقضيَّتهم العادلة.. أدْرَكوا ذلك بَعْد أنْ شعروا بأن إخوانَهم العَرَب انشغلوا عن "قضيَّتهم المركزيَّة" بحُروب داخليَّة مَفْروضة عليهم من وَرَاء البحار، يخُوْضونها بهمَّة وعُنفوان رغم عبثيَّة تلك الحروب، واستنزافها لمواردهم في غَيْر طائل، ودُون جدوى.

... تجرَّع الفلسطينيون الحقيقة المرَّة؛ وهي: أنَّ أشقاءهم العرب في حالة من التشرْذُم، ومُنهكون جرَّاء الاقتتال الدَّاخلي، والانزلاق إلى دوَّامة الخسران والتيه في صَحَراء العُنف الطَّائفي، والمذهبي، والإثني.

وهُم في هَذَا الوَضْع المُزري أضعف من إنقاذ أنفسهم، ناهيك عن إغاثة فلسطين، أو التجاوب مع صَرْخة الأقصى "الجريح" التي يتردَّد صَداها في الأفق مع كلِّ اعتداء إسرائيلي جديد: "واعرباه!!".

تركوا المحتلَّ يعيثُ فساداً في أرض فلسطين، وأخلوا الساحة للعدو ليتمدَّد كَيْفما شاء؛ يتوسَّع في بناء المُستوطنات، ويدنس باحةَ الأقصى المقدَّس، دُوْن خوف أو وَجَل؛ لعلمه أنَّ العرب مُنشغلون عنه بصراعاتهم الداخليَّة، وفي تصفية حساباتهم فيما بينهم.

وكذلك أدرك الفلسطينيون أنَّ انتظارهم سيطول فيما لو جَلَسوا على قارعة رصيف الأحداث، في انتظار "جودو" العربي؛ لذا بادروا بالتحرُّك تارة صَوْب الأمم المتحدة والمنظَّمات الدوليَّة، وتارات أُخَر نحو الشمال والغرب، يُخاطبون الضَّمائر الحيَّة بلغة عَدَالة القضيَّة التي لا تقبل التشكيك، ولا تحتملُ الجَدَل، بل واضحة وُضُوح الشَّمس في رابعة النهار.

وقبل أيامٍ، جاء اعترافُ السويد رسميًّا بالدولة الفلسطينيَّة لتصبح بذلك أول دولة من غرب أوروبا يكون لها قصب السبق في هذا الأمر؛ مما يُشكل نصراً سياسيًّا وقانونيًّا للقضية الفلسطينية العادلة، ويُمثل قوَّة دفع إضافية لمسيرة التحرُّر الفلسطيني.

ويُمكن النظر إلى اعتراف السويد بالدولة الفلسطينية باعتباره إحدى ثمار التحرُّك الفلسطيني من جهة، ودليلًا على يقظة ضمير أبناء هذه الدولة الإسكندنافية، الذين لم يرضخوا للوعيد الإسرائيلي، ولم تُرهبهم نبرة واشنطن "الاستعلائية"!

لقد ظلَّ الغرب -لأكثر من خمسين عاماً- أسرى عُقدة "الشعور بالذنب" التي تم نسجها كأسطورة مؤسسية؛ وهي: العداء للسامية، وجَرَى تحت تلك الذريعة تخويف أمم، وتخوين أخرى؛ حتى باتت "بُعبع" يقض مضاجع الدول الغربية.

واستغلَّ اللوبي الصهيوني تلك الأسطوانة أبشع استغلال، وجعلها وسيلة للابتزاز الرخيص؛ لدرجة أن أحداً لم يعد يجرؤ على انتقاد الممارسات الوحشية للمحتل؛ خوفا من "إلصاق" التهمة الجاهزة التي يُلفقها الصهاينة بـ"العداء للسامية".

ومن المُفارقات العجيبة أنَّ الفلسطينيين هُم الساميون أنفسهم، بينما الطبقة الحاكمة في إسرائيل هي من يهود غرب أوروبا "الإشكناز"، والذين لا يمتُّون بصلة للسامية إلا من خلال "الأسطورة" والادعاء الأجوف. إذن فضحايا اللاسامية (في الأصل) هم الفلسطينيون وليس الصهاينة.

واستفاد الفلسطينيون من مُعطيات الثورة التكنولوجية في مجال وسائل التواصل والإعلام لإيصال صَوْت قضيتهم إلى الضَّمائر الحيَّة في العالم أجمع، كما ساهمت تلك الوسائل في رَصْد عنجهية واستبداد المحتل، وتعامله الوحشي مع أصحاب الأرض؛ حيث أصبح الجميع يُشاهد جنود الاحتلال وهم يُمارسون أفظع الممارسات ضد شعب أعزل. وأصبح الكل يُتابع ممارساته الغاشمة -والمنفلتة- في بناء المستوطنات في الضفة الغربية، وتهجير أهالي القدس، وعرقلة مُحادثات السلام.

كلُّ ذلك خلق وعياً جديداً لدى الأوروبيين، أقرب إلى الواقع، وبعيدًا عن التحيز بفعل قوة اللوبي الصهيوني، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا. وهذا الوعي نتاجُ مُشاهدة واقعية للحقائق لجيل جديد مُتحرِّر من "عُقدة الذنب" المتراكمة جراء فظائع الحرب العالمية الثانية، وما ارتُكب خلالها من مذابح بحق اليهود وغيرهم.. جيلٌ جديد يرى بأم عينه الجُندي الإسرائيلي المدجَّج بالسلاح يقتل الطفل مُحمد الدرة في مشهد يتكرَّر كلَّ يوم.

لسنا بصدد إنكار محارق اليهود "الهولوكست"، أو تجاهل فظائع النازية بحق اليهود، ولكن لا يُمكن ابتزاز العالم وممارسة أبشع أنواع التمييز العنصري والاستعمار الاستيطاني باسم الضحايا؛ ليدفع الشعب الفلسطيني الثمن غالياً، على جرائم لم يرتكبها. وإنْ كانتْ الصهيونية العالمية قد تاجرت بذلك، واستفادت من تعويضات "الهولوكست" في بناء الكيان الصهيوني، فارضةً على العالم الغربي غضَّ الطرف عن جرائمها المتكررة خلال الستين عاما الأخيرة، والتي نتج عنها اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، والتنكيل بهم، والقذف بهم إلى دياسبورا المنافي.

أخذ هذا الوعي الجديد -في تشكُّله- بعدالة القضية الفلسطينية، مُعبرًا عن نفسه في شكل تعاطف شعبي مع القضية؛ وهو ما يمكن أن ندلل عليه بتلك المظاهرات الحاشدة التي انطلقتْ من لندن -وغيرها من العواصم الأوروبية- إبان الحرب على غزة، والتي رُفعت فيها شعارات تُدين الكيان الصهيوني الغاصب؛ بعد ممارساته التعسفية ضد الفلسطينيين.

ورغم أنَّ الاعتراف بدولة فلسطين آخذٌ في التنامي -حيث أقرَّت 135 دولة حتى الآن للفلسطينيين أحقية تقرير المصير؛ بينها سبع دول من أوروبا الشرقية، إلى جانب العديد من دول أمريكا اللاتينية- ألا أنَّ اعتراف السويد له طعمٌ آخر؛ باعتبارها أول دولة من أوروبا الغربية تُقدم على تلك الخطوة؛ مما يُنبئ بأن دولا غربية قد تحذو حذوها. وفي الأذهان التصويت الرمزي في مجلس العموم البريطاني قبل أسابيع، والذي اعترف فيه أيضًا بدولة فلسطين.

... اتخذتْ السويد تلك الخطوة الجريئة في وقت تَلبَّد فيه أفق الحلِّ السياسي للقضية الفلسطينية جرَّاء التعنت الإسرائيلي المعهود إزاء كلِّ مبادرة سلمية، وآخرها: مُحاولات جون كيري وزير الخارجية الأمريكي التي وأدها نتنياهو بعنجهيته وشروطه "التعجيزية".

خُطوة السويد ستشجِّع حتمًا الكثيرَ من الدُّول التي تقف في المنطقة الرمادية من الانحياز إلى الحق، والاعتراف بالدولة الفلسطينية، بعد أنْ قدَّمت أستوكهولم مثالا حيًّا للتحرر من السطوة الصهيو-أمريكية، ومَنْ يدري: فقد تُثبت الأيام القادمات أنَّ اللوبي الصهيوني قد يكون مجرَّد "نمر من ورق..."!

وعمليًّا.. قد لا يُسفر اعتراف السويد عن إقامة الدولة الفلسطينية غداً، ولكن لا يُمكن إغفال أهميته في تحريك رَوَاكد تلك القضية المركزية لنا -عربًا ومُسلمين- فالاعتراف بمثابة وثبة في طريق الألف خُطوة نحو النصر، وإقامة دولة فلسطينية مُستقلة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة