تداعى إلى ذهني، وأنا أُتابع مشهد توجه الأسكتلنديين إلى صناديق الاقتراع لتحديد مصير ارتباطهم بالمملكةِ المُتّحدةِ في ديمقراطية توفر حُريّة الاختيار، مشّهد مُغاير آخر يجسده واقع الحالِ في العديد من بلدان عالمنا العربي الغارقةُ في الفوضى والاقتتال..
عندها أيقنتُ بأنّ الفارق بيننا وبينهم، أننا أضعنا بوصلتنا، بينما حافظوا هم عليها للاسترشاد بها، في لحظات اتّخاذ القرارات التاريخية..
يجنح البعض في شرقنا العربي للاحتكام إلى فوهة البندقيةِ، لحسم الخلافات بين مكوناته، ولإسكات أيّة أصوات تروم إصلاحًا، بينما يكون القولُ الفصلُ في تلك البلدان - التي تحترم نفسها وتُقدّس إنسانها - لصندوق الانتخاب أو الاقتراع، المنحاز دومًا إلى الديمقراطية والشفافية..
اقترع الأسكتلنديون، ورغم تقارب نتيجة الاستفتاءِ على مصير الإقليم، إلا أنّ الجميع انصاع لإرادة الديمقراطيةِ عندما رجحت كفة مؤيدي البقاء تحت مظلة المملكة المُتّحدةِ..
ورغم مصيرية الاستفتاء، وأهمية نتيجته في تحديد مستقبل وعلاقة أسكتلندا بـ"الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس"، إلا أننا لم نر من قالوا " نعم" يعمدون إلى التخريب، أو يخرجون عن سياق النّظام العام، بل رأينا جميعًا كيف أنّهم التزموا نتيجة الخيار الديمقراطي..
وما يعنينا هُنا، هو التّعلم من هكذا دروس في كيفية حل وحسم الخلافات السياسية، وتلك القضايا المُتعلِّقة بالشأن العام.. باعتبارها قرارات إستراتيجية لا يجوز أن تحسم بشكل فردي، أو أن يحتكر البت فيها شخصٌ واحدٌ وبصورةٍ ديكتاتوريةٍ، بل يجب أن يقول الشعبُ كلمته عبر صناديق الاقتراع، على أن يتقبّل الجميع النتائج بروحٍ رياضيةٍ ديمقراطيةٍ دون ردود فعلٍ عاطفيةٍ وغاضبةٍ تقضي على الأخضر واليابس..
أعود .. وأكرر أننا لم نشهد في أعقاب إعلان نتائج استفتاء أسكتلندا مشاهد غير حضارية كما اعتدنا أن نشاهد وخاصة في عالمنا العربي، وفي العديد من الدول الأخرى التي تكرر الحديث عن القيم صباحاً ومساءً، بينما تجري على أراضيها عمليات إقصاء ممنهج وتهميش منظم وإلغاء للآخر المُختلف، دون احترامٍ لحرية رأي، أو مراعاةٍ لحرمة دساتير أو صونٍ لكرامةٍ إنسانيةٍ..
نعم .. احترم الأسكتلنديون المعارضون للوحدة مع المملكة المتحدة، رأي الأغلبية رغم أنها أغلبية بسيطة.. وهو موقف كان سيقفه المؤيدون للبقاء تحت مظلة المملكة المتحدة فيما لو كانت الغلبة للخيار الآخر، رغم أن استقلال أسكتلندا لو كُتب له النجاح، كان سيُدخِل أوروبا في سلسلة من الاستفتاءات والمطالبات بالاستقلال من قبل كيانات قومية، لأنّ العديد من الدول الأوروبية تتكون من قوميات وطوائف مؤتلفة مجتمعيًا، وقد ترفع شعارات الاستقلالية خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية التي تعد من نواسف الوحدة..
إذن.. فارق حضاري كبير بيننا وبينهم في كيفية حسم الخلافات والقبول بالتعددية والاختلاف.. وللأسف فالعديد من بلداننا العربية وأنظمتها الحاكمة لم تحترم إرادة شعوبها فدخلت في مسلسل الفوضى وهي فوضى غير خلاقة، ويخطئ من يحاول تصويرها على أنّها "خلاقة"..
نعم لا ننكر أنّ هناك تدخلات خارجية تعزِف على وتر الأقليات وتذكي نار الطائفية وتساهم في الكثير من الأزمات ولكن الأوضاع الداخلية هي العامل الحاسم في تأجيج الصراعات.
فبالنّظر لما يحدُث في العراق على سبيل المثال منذ سنوات وربما يستمر لعقود، فقد كان نتيجة قرارات فردية متتابعة: أولها خوض الحرب ضد إيران، ومن ثم احتلال الكويت.. قرارات فردية خاطئة أدت إلى نتائج كارثية دفع ثمنها الشعبُ العراقي غاليًا من دمه وموارده على مدى عقودٍ تلت تلك القرارات الفردية الحمقاء. ومهدت للغزو الأمريكي للعراق عام 2003م.
ونتيجة لهيمنةِ الأفرادِ على القرارات الإستراتيجية، وتركز السلطات بيدهم دون محاسبة أو رقابةٍ تذكر، دخلت العديد من دولنا العربية في متاهةِ نتيجة ضياع البوصلة وفقدان الاتّجاه..
اقتتال عبثي وحروب أهلية يتم فيها تدمير منجزات تاريخية نتيجة تمكّن فكرة عدم القُدرةِ على حلِ الخلافاتِ بطرقٍ حضاريةٍ..
يسود عالمنا العربي، إلغاء الآخر وتخوينه لمجرد الاختلاف في وجهات النظر، ويتم ذلك دون الاحتكام إلى وسائل حضارية للوصول إلى توافقات تُرضي الجميع وحلولٍ تحافظ على المكتسبات وتراعي الصالح العام.. إنّ هذا التمدد الأخطبوطي للممارسات الخاطئة في مجتمعاتنا، ينسحب على العديد من جوانب حياتنا حتى نجده يطال تعاملاتنا اليومية وبشكل جلي ومخجل في كثيرٍ من الأحيان.
وبينما توجّه الأسكتلنديون إلى صناديق الاقتراع لحسم موضوع استقلالهم عن المملكة المتحدة، نجد أن سيناريو مغاير يتكرر في العديد من البلدان العربية مثل السودان وسوريا واليمن وليبيا التي تعيش درجة من درجات الحرب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي، ويحوم فوقها شبح التقسيم نتيجة لطغيان الدكتاتوريةِ الفرديةِ، وشيوع مفهوم عدم تقبل الآخر، وغياب الفكرة القائلة بأنّ مظلة الوطن تتسع للجميع.
كان يمكن للنظام السوري ومع بداية الاحتجاجات الشعبية قبل أربع سنوات أن يقدم الإصلاحات التي كانت محور مطالب الشارع وقتئذٍ وهي مطالب مشروعة ومنتظرة منذ عقود، إلا أنه أبى واستكبر، وآثر مواجهة شعبه بالحديد والنّار، فكانت النتائج ما نراه اليوم من وضع مأساوي وكارثي، عنوانه الأبرز : القتل والدمار، كما إنّ من الآثار المباشرة للوضع في سوريا ما نعايشه من أشكال التدخلات الأجنبية في شؤون هذا البلد الذي أضحى ساحة لحروب بالوكالة ترمي لتصفية حسابات، ونشر وتصدير آيدولوجيات..
انظر .. إلى أيّ مدى يمكن أن يؤدي التعنت، ورفض المطالب الموضوعية؟ وكيف أنّ الإصرار على السباحة ضد تيّار التاريخ سيقود المغامرين إلى هوة سحيقة لا تقتصر شرورها عليهم وحدهم، بل تطال بلدانهم وشعوبهم.. فرغم مشروعية المطالبة بالإصلاح، باعتباره ضرورة تاريخية، وحاجة لا غنى عنها لمواكبة حركة التاريخ التي لا تتوقف في سباق الأمم الحضاري، إلا أنّه - ومن المؤسف - نجد أنّ بعض هذه الأنظمة، حاول مواجهة حراك الربيع العربي، دون أن يقرأ التاريخ قراءة جيّدة، واعتمد على الحلول الأمنية والعسكرية الفاشلة فكانت النتيجة خرابًا ودمارًا، والدخول في متاهات القتل اليومي كما يحدث في سوريا، كما إنّ بعضها لم يتهيأ جيدًا للتناغم مع أجواء الحراك الديمقراطي الذي أفرزته ثورات الربيع العربي، فوقع أسيرًا للاضطرابات والقلاقل كما هو الحال في ليبيا واليمن..
ضاعت البوصلة في هذه البلدان، وتداخلت الخرائط، فلم يعد أحدٌ فيها يتبيّن معالم الطريق، ولو أنّ هذه الدول حددت أهداف التنمية والعدالة والحقوق والواجبات بشكل واضح وصريح، لما أضاعت البوصلة وتاهت في صحراء العنف..
ولا مخرج لهذه البلدان من دوامة الاقتتال واللااستقرار، إلا باعتماد الحلول الحضارية والسلميةِ باعتبارها الأكثر استدامة لأنها تحقق الصالح العام وتواكب حركة التاريخ.