عطاءٌ بلا حدود

يُجدِّد شهرُ رمضان المبارك في نفوسنا كثيرًا من القِيَم النبيلة، وتشعلُ إطلالتُه في وُجداننا جَذْوَة الخير، وتحفِّزُ في دواخلنا المَيْل الفطري للعطاء.

كيف لا، وهُو شهرٌ تتجسَّد في أيَّامه ولياليه أروع صُوَر العطاء (!)، عطاء من الخالق لعباده؛ حيثُ إنَّ شهر رمضان يُمثل هِبَة ربانيَّة سامية لهذه الأمة؛ ففيه الوَعْد بجزاء لا يُماثله جزاء؛ إذ يقول الله -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ".. وتنسجمُ هذه الأعطية الإلهية -وتتناغم- مع هبات أخرى عديدة؛ تتجسَّد في الآية الكريمة: "ولسوف يُعطيك ربك فترضى". تلك الآية التي كلما استمعتُ إليها ينتابَنِي شُعورٌ بالفرح والتفاؤل والرضا الداخلي؛ فهي آية تشرح الصدر، وتنبسط لها الأسارير؛ بما فيها من طاقة إيجابية تبثُ الطمانينة في نفوس العباد بأن عطاء الخالق لا ينضبُ، ومُتصل، وغير ممنون.

ومِنَ هذا العطاء الرَّباني المطلق، تنبثقُ عطاءات الإنسان في الحياة، بشتَّى أشكالها وتفرُّعاتها؛ حتى نكاد نصل إلى نتيجة أنَّ محور الحياة هو العطاء؛ فحياتُنا عطاء دائم، ومتى توقَّف نهر العطاء عن الجريان في مسارب حياتنا، تتوقَّف عجلتها عن الدَّوران. وحياتنا أعمق معنًى، وأكثر جمالاً وإنسانية بالعطاء الذي يُصاحبه الرضا والقناعة والتقدير.

وعَوْدٌ على الآية: "ولسوف يُعطيك ربك فترضى"؛ فهي بكلماتها القصيرة، ولغتها القرآنية المكثفة، تنفذُ عبر أعماق الروح؛ فتنشرُ فيها الأملَ والإيمانَ العميق بفضل الواهب وقدراته اللامحدودة في العطاء. وعلى الرغم من أنَّ الخطاب في الآية مُوجَّه للنبي الكريم كوعد إلهي -تحقق بامتياز- إلا أنَّها تتجاوز الخاص إلى العام، وتتضمَّن نفحات نورانية، تؤصِّل للعطاء في نفوس الإنسان، وتُعلي من شأن كل مُعطٍ، وجميع من يقدِّم خيراً للإنسانية ابتغاءً لمرضاة الله سبحانه وتعالى.

إذن؛ العطاءُ هو الفعل الأقوى في حياة الأفراد والمجتمع، وتأثيره عميقٌ عليهما معًا؛ فبالعطاء تتحقَّق معاني التكافل، وإحياء رُوح التضامن، ويَقْوى النسيج المجتمعي، وتزول الفوارق؛ وبالتالي تُرْسى قواعد الوئام والمحبَّة في المجتمع.

وثمَّة أوجه مُختلفة للعطاء في حياتنا؛ تحدِّدها أنماط علاقاتنا الإنسانية المتعددة والمتنوعة. وفي هذا الشهر الكريم، تنتشرُ وتبرزُ إلى العلن مُختلف أوجه ظاهرة العطاء الإنساني المرتبطة بالصوم -الذي يُعدُّ في حد ذاته عبادة تجسِّد أعلى درجات التجرُّد والعطاء؛ فهو في حقيقته يُمثل العطاء الصادق المخلص والصافي- ومُنطلق عطاء الصائم، يرتكزُ على العطاء المطلق الذي مَنَّ الله به عليه أولا، وثانيًا لأن الصيام يجعله في حالة مُشاركة وجدانية مع مَنْ هو في حاجة للعطاء؛ فيتماهى معه حتى يُصبح المعطي ومُستقبلُ العطاء مُتحدَيْن تحت ظل هذه القيمة السامية.

وكلما ازدادتْ قدرات الفرد على العطاء، ازدادتْ مكانته في الدنيا والآخرة؛ في دلالة على أنَّ ثمار العطاء لا يقطفها مُتلقي العطاء فقط، بل يعمُّ نفعها الجميع، خاصة عندما يكون عطاءً بلا حدود لا ينتظرُ منه المُعطِي سوى رضا البارئ.

وفي رمضان -سيِّد الشهور- تنتشرُ صُور العطاء في مُختلف ربوع بلادنا، تتنوَّع في مظاهرها، وتلتقي في أهدافها.. هُنا وهناك، تقومُ محطات "إفطار صائم" ممدودة موائدها على امتداد الطرقات والحواري والشوارع، إنه عطاء من أجل العطاء، عطاء لوجه الله تعالى، ومن أجل إعلاء قيم الخير في المجتمع والعمل الصالح. كما تنتشرُ الكثير من أوجه العمل التطوعي في بلادنا؛ عبر الفرق المختلفة؛ مُجسِّدة عناوين بارزة للتكافل والتضامن المجتمعي. وتلك الاعمال التطوعية -التي هي شكل من أشكال العطاء كما أسلفت- تساهم في أن يتشرَّب الشباب ثقافة التطوع؛ وبالتالي المساهمة في مُختلف الفعاليات الهادفة إلى بذل العطاء، ونشر مظلته الخيرية لخدمة المجتمع.

ومما يُثلج الصدر: ما نُتابعه حاليًا من حراك تطوعي عبر عديد المبادرات الإنسانية، الهادفة إلى المشاركة، وتخفيف آلام الفقر عن بعض أبناء المجتمع، وهذا من صميم معاني العطاء المتجرِّد، التي ترمي إلى تقوية أواصر التماسك والتلاحم بين كافة طبقات المجتمع؛ مما يحفظ للمجتمع تضامنه، وتماسكه، وقوة نسيجه ولحمته الوطنية.

ويترتَّب على إشاعة العطاء في المجتمع سيادةُ روح الرضا والقناعة، وكما في الآية الكريمة: "ولسوف يعطيك ربك فترضى"؛ حيث يقترنُ العطاء بالرضا والسعادة؛ فتواصُل العطاء يكفلُ بلوغ مرحلة الرضا والتقدير والشكر.

والمتأملُ في حياة الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- يجدُ تحقُّق الآية الكريمة في مسيرة حياته، التي رافقتها العطاءات الإلهية في مُختلف مراحلها؛ حيث إن كلَّ مرحلة كانت ثمرة لعطاء أكبر، ورضا أكثر.

والرسولُ قدوتنا، أُجْزِل له العطاء؛ لينتقلَ من حياة اليُتم إلى الإيواء في كَنَف الرحمن، وإلى آفاق الهداية، ومن ضيق العيش إلى سعته.. وكلها عطاءات استعانَ بها -عليه الصلاة والسلام- في تذليل عقبات وتحديات مسيرة الدعوة؛ الأمر الذي يُؤسِّس لرسوخ القناعة بأن طريق العطاء يفضي إلى تحقيق الغايات الكريمة والأهداف العظيمة، خاصة عندما يكون للإنسان هدفٌ نبيلٌ يسعى للوصول إليه بالعمل الصالح.

وتتعدَّد أوجه العطاء الرباني، وتتخذُ أشكالا مُتنوعة ومُختلفة؛ تتناسب مع كل حالة، وتتواءم مع الفردية الإنسانية بعدالة مُطلقة، قد لا نلمسها ولكنها مُتحققة قطعًا؛ فهناك من يُعطَى الثروة والمال، وهناك من يحظى بهبة العلم، أو الوجاهة أو الولد...وغيرها من نعم الحياة المختلفة؛ فالعطاءُ غير ممنون، ولكنه في الوقت ذاته ينبغي مُقابلته بالرضا والقناعة، والشكر الذي يستوجبُ عطاءً مقابلاً لبني البشر.

وغيرُ بعيد عن هذا المفهوم الشامل للعطاء، ثقافةُ العملِ -سواءً كان هذا العمل لأجل الدنيا، أو لأجل الآخرة؛ فكلاهما يستحقُ التقدير والثناء- وعلى هذه القاعدة الذهبية، كان زرعُ المسلمين الأوائل وجهادهم وبيعهم وشراؤهم، وهو ما يُؤكد أصالة مفهوم "ثقافة العمل" في الإسلام، والدليلُ على ذلك الكثير من الآيات التي تحضُّ على العمل وتباركه، وفي الوقت ذاته آيات أخرى تحثُّ على الإنفاق والبذل والعطاء. وهكذا كانت السيرة النبوية الشريفة، مسيرة في العمل، والحضِّ عليه وتكريمه.

ونحنُ نستظل بأجواء رمضان -شهر العطاء- علينا أن نستحضرَ أنه كذلك شهرُ العمل، الذي لا ينبغي أن تتعطَّل فيه عجلة الإنتاج، أو تتراخى في مسيرها. ومن هُنا، وجب التنبيه إلى عدم الركون للكسل، وتعطيل الإنتاج بحُجَّة الصيام؛ فذلك أمرٌ ينال من جوهر هذه العبادة العظيمة التي لم تكبِّل خُطى المسلمين في مسيرهم نحو بقاع الأرض؛ ليملأوها عدلا وإنصافا وحضارة.. في شكرٍ بيِّنٍ لنعمة العطاء الرباني، التي أنقذتهم من دياجير الضلال إلى أنوار الإيمان الساطعة.

ويُضادُّ مفهوم شكر العطاء: ثقافة النكران والجحود؛ فهناك البعض -في كل زمان ومكان- ممن كلما أعطيتهم يطلبون المزيد؛ جُبِلتْ نفوسهم على عدم الرضا، وهُم بذلك أسرى للطمع والجشع...وغيرهما من القيم المذمومة، التي تسيء إلى صاحبها قبل أن تسيء إلى المُعطي، وأولئك بخلاف المسلم الحقيقي عفيف النفس واليد واللسان، الذي إن وَجَد أعْطَى، وإن احتاج وأُعْطِي شكر وقنع؛ فهو مُتسقٌ في سلوكه مع النص القرآني الكريم: "ولسوف يعطيك ربك فترضى"؛ ليكفل لنفسه الوقاية من شرور المجتمع الاستهلاكي، ويحصِّنها من قيمه الهدَّامة؛ القائمة على: النهم، وعدم الرضا، والتي تحوِّل الرغبة إلى غريزة مدمِّرة.

... إنَّ العطاء لا يُولِد سوى العطاء، فيما لا ينتُجُ عن الجحود والنكران سوى الدَّمار الذاتي.

تعليق عبر الفيس بوك