لا يُمكن الحديث عن انتعاش ريادة الأعمال، ونمو المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بمعزلٍ عن التمويل، باعتباره عصب التطوّر لهذا القطاع، والعامل الأهم في ازدهاره..
ومما يُثلج الصدر، أنّ الدلائل الماثلة تشير وبوضوح تام إلى أنّ هناك حالة من الوعي المجتمعي بمفهوم ريادة الأعمال، آخذة في التبلور والتنامي بصورة غير مسبوقة في السلطنة، وأن الإقبال على إنشاء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يسير بوتيرة عالية، تعكس في المقام الأول رغبة رواد الأعمال في تأسيس مشاريعهم الخاصة، وتُترجم حجم الاهتمام الذي حظي به القطاع مؤخرًا في أعقاب ندوة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي عُقدت العام الماضي في سيح الشامخات بتوجيهاتٍ ساميةٍ من لدن حضرةِ صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المُعظّم - أيّده الله.
هذه النَّدوة التي خرجت بحزمةٍ من القرارات المُهمِّة مهَّدت الطريقَ للانطلاقة المؤسسيةِ لقطاع المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة من خلال توفير البيئة التشريعية الملائمةِ لأنشطِته، وتهيئة كافة الأسباب الكفيلة بتحريكه للأمام بقوةٍ وثباتٍ ليمثل رافدًا حيويًا للاقتصاد الوطني وداعمًا لنموه واستدامته.
ويُمكن اعتبار هذا الإقبال من قبل أبناء وبنات الوطن على إنشاء المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة (حيث بلغ عدد رواد الأعمال المُسجَّلين بهيئة تنميةِ المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة أكثر من 2110 رواد أعمال في مختلف المجالات والأنشطة منذ ندوة سيح الشامخات وحتى الآن) دليلاً على أنّ ثقافة ريادة الأعمال بدأت تأخذ مكانها في المجتمع العُمّانِي على أُسسٍ منهجيةٍ وطرائق موضوعيةٍ.. حيث إنّ هؤلاءِ الشبابِ يتوجهون إلى تأسيس مشاريعهم على أُسس جديدةٍ مبرأةٍ من العشوائيةِ والارتجالِ، ولا تتيح مجالاً لتجارة مستترةٍ، مستفيدين من التسهيلات العديدة التي تتيحها الحكومة من خلال توفير التمويل، وإقامة المعارض للتعريف بمنتجاتهم، وإتاحة الفرص لهم للاطلاع على التجاربِ الدوليةِ في مجالات أنشطتهم من خلال الابتعاث الخارجي إلى عددٍ من الدول المتقدمة في أنشطة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
ولعل في مقدمةِ التسهيلاتِالتي نودُّ الوقوف عندها في هذا المقام، تلك المُتعلقةِ بالتمويل، حيث أصبح صندوق الرفد وعاءً تمويليًا جامعًا، يستوعب كافة تطلعات رواد الأعمال، ويُحقّق طموحاتهم في تمويلٍ خالٍ من الاشتراطات التعجيزيةِ، ويُلبِّي كافة مُتطلباتِهم المُتعلِّقة بتأسيس المشاريع ومتابعة مسيرتها حتى تُحقّق النجاح، وتكفل لأصحابِها العائد المرتجى..
لقد نبعت فكرةُ تأسيس الصندوقِ من الرُّؤية الساميةِ لجلالة السُّلطان المفدى، تتويجًا لقرارات ندوة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بسيح الشامخاتِ بهدف تمكين الشباب والشابات العمانيين من تأسيس وتطوير مشاريعهم الصغيرةِ والمتوسطةِ، وتشجيعهم على ذلك من خلال تذليل أكبر عقبةِ تقف في وجه من يطمحون في ارتياد هذا المجالِ والمُتمثلةِ في تحديات التمويل.. حيث يتيح الصندوق تمويلاً كافياً وبشروط ميسرةٍ، بعيدًا عمّا كان يجهض طموحات رواد الأعمال من اشتراطاتٍ صعبةٍ تضعها البنوك الممولةُ لمشاريعهم.. حيث لا يشترط الصندوق الضمانات العينية التي تشترطها البنوكُ التجارية عادةً، بل يكتفي بجدية صاحب المشروع ودراسة الجدوى الاقتصادية لمشروعه.
كما تتّسم إجراءات وشروط الإقراض بالسهولةِ والمُرونةِ، وتراعي المعايير الدوليةِ للتمويل، مع محدودية الرسوم الإدارية والفنية والتي تستثني الخاضعين للضمان الاجتماعي، إضافةً إلى تسهيلاتِ السدادِ والذي تمتد فترته إلى 15 شهرًا للقروض المُرتفعةِ بعد فترةِ السّماح، علاوة على الحدِّ من أقساط سداد القروض خلال الثلاث سنوات الأولى من عمر المشروع.
إنّ صندوق الرفد ومنذ إنشائهِ بموجب المرسوم السُّلطانِي رقم 6/2013 أصبح علامةً فارقةً على طريقِ دعمِ قطاعِ المُؤسّسات الصغيرةِ والمتوسطةِ، وقد وُلد الصندوقُ عملاقًا حيث ضمَّ ابتداءً البرامج التّمويليةِ الثلاثةِ التي كانت قائمة وقتئذ وهي: برنامج سند وصندوق موارد الرِّزق وبرنامج المرأةِ الريفيةِ، وبرأس مالٍ قدره 70 مليون ريال..
وقد هيّأ كلُ ذلك، انطلاقةَ قويةَ للصندوق، تدل عليها الأرقام حيث بلغ عدد المشاريع التي وافق صندوق الرفد على تمويلها منذ بدء نشاطه في مطلع العام الجاري، 523مشروعاً بتكلفة إجمالية تجاوزت 14.6 مليون ريال عُمّانِي، وتشمل هذه القروض جميع الفئات المستهدفة من الباحثين عن عمل والخاضعين للضمان الاجتماعي والمرأة الريفية والحرفيين والمهنيين.
وثمّة أمر في غاية الأهمية، فطن له القائمون على المشروع، يتمثل في تقسيم البرامج التمويلية للصندوق إلى حزمٍ تستوعب كافة الفئات المجتمعية، حيث يستهدف برنامج "مورد" دعم حالات الاحتياجات الخاصة والضمان الاجتماعي بسقف قروض يصل إلى عشرة آلاف ريال، فيما يخدم برنامج "تأسيس "الباحثين عن عمل بسقف تمويل عشرين ألف ريال، ويصل سقف التمويل في البرنامج الثالث إلى مائة ألف ريال ويستهدف المبادرين الراغبين بتأسيس ودعم مشروعاتهم والحرفيين والمهنيين وأصحاب الأعمال والمرأة الريفية، أما برنامج "تعزيز" فهو يهدُف إلى منح قروضٍ إضافية لمستفيدي الصندوق بغرض النمو والتوسع في مشاريعهم.
من هنا يتّضح لنا، مدى سعة مجالات التمويل التي يُتيحها صندوق الرفد حيث تشمل العديد من الأنشطة الاقتصادية، والمهم أيضًا أن دور الصندوق لا يقتصر على التمويل، بل يتعداه إلى مساعدة رُوّاد الأعمال في تقييم دراسة الجدوى وكيفية إعدادها، إضافةً إلى تقديم الدعم والمساندة لهم من خلال الخدمات الاستشارية والزيارات الميدانية للمتابعة والمساندة والوقوف على أهم التحدِّيات التي تواجههم والعمل على تذليلها بما يكفل لمشاريعهم الاستمرارية والنمو وذلك بتعاونٍ وثيقٍ مع الهيئةِ العامةِ لتنميةِ المؤسسات الصغيرةِ والمتوسطةِ.
ولاشك أن الإقبال الكبير على الصندوق، يحتم عليه التطوير المستمر لبرامجه ومن ذلك استحداث برامج تمويلية جديدة خاصة في القطاعات الإنتاجية التي تعود بفائدة أكبر على الاقتصاد الوطني، وفي مجالات تُسهم أكثر في مسيرة التنويع الاقتصادي، مثل الصناعة والسياحة والزراعة وتقنية المعلومات.
وينتظر كذلك أن يراعي الصندوق في إستراتيجيته المستقبلية رفع سقف التمويل بصورةٍ متدرجةٍ بهدف توفير الدعم الملائم للمشاريع، والذي يغطي جميع احتياجاتها ويضمن نموّها ويكفل استمراريتها.
وحتى يُلبِّي الصندوق الطلبات المتزايدة على التمويل، عليه أن يعمل لزيادة موارده ودعمها من خلال استثمار بعض منها بما يدر عليه دخلاً إضافيًا يمكن توظيفه في توسيع مظلة التمويل الذي يقدمه لرواد الأعمال ورفع سقفه، خاصة وأن المرسوم السُّلطانِي القاضي بإنشاء الصندوق أتاح له إمكانية استثمار بعض من موارده المالية الخاصة.
ويمكن مع زيادة موارده أن يحد صندوق الرفد من الأنشطة المستثناة من التمويل والتي تشمل حالياً أنشطة العقارات والإنشاءات والمهن المصرفية والتأمين، حيث إنّ بعض الجوانب المتعلقة بهذه القطاعات قد تشكل مجالاً رحبًا لأنشطة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتمثل داعمًا لقطاع ريادة الأعمال ..
ومن التطلعات المعقودة على الصندوق، التوسع في افتتاح الفروع حتى تصل خدماته التمويلية لشباب السلطنة من الطامحين في ريادة الأعمال في مختلف المحافظات والولايات، علاوة على تعميق نشاطه في توقيع وإبرام الاتفاقيات ومذكرات التعاون التي تخدم رواد الأعمال في مراحل لاحقة من عمر مشاريعهم.
ويبقى القول، إنّه يُعوَّل كثيرًا على صندوق الرفد خلال المرحلةِ المقبلةِ في ترسيخ مفهوم ريادة الأعمال، وتجذيرها في واقعنا حتى تعود على اقتصادنا الوطني بالازدهار والنماء.