دولة القانون.. وإعلاء البنيان المؤسَّسي

 

 

الأوامرُ السامية التي تفضَّل حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بإصدارها، الأسبوع الماضي؛ والقاضية بتأجيل تطبيق قرار الهيئة العامة لحماية المستهلك بشأن حظر رفع أسعار بعض السلع الأساسيَّة، تُعبِّر في جانب منها عن مبدأ أصيل في منهج جلالة السلطان؛ والمتمثَّل في: الاستجابة إلى تطلعات شعبه، والعمل على تحقيقها؛ ممَّا يجعل الإرادة السامية في اتساقٍ وتناغمٍ دائميْن مع صَوْت الشعب.

والاستجابة السامية في مُعظمها استشرافٌ لاحتياجات مسيرة التنمية في مُواجهة تحدِّيات المستقبل، كما أنَّها تشمل -كذلك- التلبية الفوريَّة عندما يلتمَّس الشعب من قائده المفدَّى التدخلَ لتحقيق طلب مُعين.

إذن؛ هذه الاستجابة الكريمة تأتي جريًا على هذا النهج الحكيم في التفاعل المستمر مع احتياجات الشعب، والأخذ بالصَّالح العام؛ لتحقيق الرخاء والاستقرار والحياة الكريمة لأبناء عُمان، وهذا نهجٌ تعوَّدناه من جلالته على مَدَى أكثر من أربعة عقود. وهذا الانسجامُ الرائع يكفلُ تجاوزَ التحدِّيات التي نواجهها بالإرادة، والعمل الجاد.

والجانبُ الآخر والمُهم؛ هو: أنَّ الأوامر السامية بتأجيل تطبيق قرار الهيئة العامة لحماية المستهلك، تعدُّ داعمة لإرساء دولة القانون؛ من خلال سدِّ الثغرات التشريعيَّة، وإكمال النواقص القانونيَّة؛ بما يكفلُ تعزيزَ بيئة كافة الأنشطة الاقتصاديَّة والأعمال بمختلف أنواعها. ولا شكَّ أنَّ هذا من المُتطلبات العاجلة التي لا تحتملُ التأجيل. وفي هذا الصدد، يُمكن اعتبار الأوامر السامية بمثابة توجيه سامٍ للجهات المُختصة لتسريع وتيرة إنجاز القوانين ذات الصلة؛ لتعمل كمنظومةٍ مُتكاملةٍ في إطار التوجُّه الاقتصادي الكُلي لبلادنا، والذي يندرجُ تحت مبادئ الاقتصاد الحر، واقتصاد السوق.

ومن المعلوم أنَّ اقتصاد السوق الحر -ولكي يعمل في بيئة صحيَّة- يحتاجُ توافر حزمة من المقوِّمات؛ لعلَّ من أبرزها: التشريعات والقوانين التي تنظِّم آليَّات السوق، وتضمن حقوق كافة الأطراف، وتحميها من التغوُّل المتبادل.

وفي حالة بلادنا، تنقصنا عديد التشريعات؛ الأمر الذي أدَّى إلى ظُهور تشوُّهات بنيويَّة في اقتصادنا الوطني؛ تتجَّلى في: هيمنة المجموعات التجاريَّة الكبيرة، وضعف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وانتشار التجارة المُستترة.

فالأوامر السامية ربطتْ تطبيقَ قرار أسعار السلع باستكمال المنظومة القانونيَّة المرتبطة بتنظيم السوق؛ ومنها: قانون حماية المستهلك، وقانون الوكالات التجاريَّة، وقانون المنافسة ومنع الاحتكار. وهذا يُدلل على الرؤية الحكيمة لجلالة السلطان؛ حيث إنه لا يُمكن تنظيم توازن أداء السوق ضمن مبدأ الاقتصاد الحر كما حدَّده النظام الأساسي للدولة، إلا في ظلِّ وُجود بيئة تشريعيَّة مُتكاملة تمنع الاحتكار، وتعزِّز المنافسة، وتحمي المستهلك من استغلال التجار، وفي الوقت ذاته مُعالجة الاختلالات الحاصلة في موضوع الوكالات التجاريَّة.

والحديثُ عن هذه القوانين ليس بجديد؛ فبعضُها ينتظر صدوره من سنوات، ورغم أنَّ قانون حماية المستهلك على وشك أن يرى النور بعد إقراره في مجلس عُمان، إلا أنَّ بقيَّة القوانين المُنظِّمة لأداء السوق تأخر صدورها كثيرا، وبعضها كان مُتوقعًا صُدورُه منذ أكثر من ثلاث سنوات، إلا أنَّها ما زالتْ حائرة، وتُراوح مكانها بين: مجلس عُمان، ومجلس الوزراء، والوزارات المعنيَّة.

والواضحُ أنَّ هذا الأمر يرجع -في جانب منه- إلى ضعف الكوادر القانونية لدينا، خاصة في الفقه القانوني والتشريعي. وهذا يُعظِّم الحاجة إلى تعزيز الكوادر العُمانيَّة في القانون؛ عبر: البعثات، والشهادات العليا من أرقى الجامعات؛ لسدِّ النقص الحاصل في هذا المجال، ولتلافي ومُعالجة إشكاليَّة البطء في التشريع القانوني التي نُعاني منها حاليًا، والتي تؤثر على مختلف جوانب الحياة؛ حيث إنَّ وُجود هذه التشريعات التي تنظم المنافسة وتمنع الاحتكار أصبحتْ مُهمِّة في خلق بيئة أعمال صحيَّة للمستهلك والتاجر والمستثمر؛ لتحقيق التنمية الاقتصاديَّة ضمن أُسس العدالة والمُنافسة الشريفة؛ بما يُحقق التوظيف الأمثل للموارد، وتحرير السوق من سوء الاستغلال.

والشاهدُ: أنَّ غياب هذه القوانين حَدَا بالكثيرين إلى إساءة استخدام سياسة الاقتصاد الحر لتوظيفها لمصالحهم، رغم أنَّه وفي الولايات المتحدة الأمريكية (قلعة الرأسماليَّة الحصينة)، لا يوجد اقتصاد حر في المطلق، بل هو مُنظم ومقيَّد بحزمة من القوانين الصارمة التي تعزِّز المنافسة، وتكافح الاحتكار، وتحمي المستهلك. وهي تجربة جديرة بالاستفادة من مُخرجاتها ونتائجها في خلق البيئة المُلائمة لزيادة التنافسيَّة في الأسواق لحماية المستهلك، وضمان حقوقه ضد كلِّ أشكال الاحتكار والغش التجاري.

وعِندَ الحديث عن الاحتكار؛ فالحقُّ يُقال: إن اقتصادنا يُعاني الأمرِّين من هذا الخلل، الذي يتنافى مع الدين؛ فهو مُحرَّم شرعًا في ديننا الإسلامي، كما أنَّ أغلب التشريعات والقوانين تحظره، وتعاقب عليه -وبأحكام مُختلفة.

ونكونُ كمَنْ يخدع نفسه، عندما نبرِّئ اقتصادنا من الاحتكار، وننفي وجوده؛ فهو موجود، ومُتغلغل في الممارسة التجاريَّة بصُوْرة لا يُمكن نُكرانها، ولكنه قد يتخفَّى أحياناً، أو يتخذ مظاهر مُتعددة يصعُب أحياناً الكشف عنها.

وفي بعض القطاعات لدينا -مثل: قطاع السيَّارات، والأدوية، والمواد الغذائيَّة- يبرز الاحتكار في أوضح تجليَّاته، وإذا ظهر الاحتكار في قطاع ما، فإنَّ ذلك مَدْعَاة إلى رفع الأسعار، والتحكم فيها، بعيداً عن آليَّات العرض والطلب؛ باعتبار أنَّ المحتكر هو من يتحكَّم في الطلب، وينال السعر الذي يُريد.

وتبيِّن عديد الدراسات أنَّ قطاع السيارات، وقطع الغيار -المرتبط به- هو الأغلى في بلادنا، مُقارنة مع دول مجلس التعاون الخليجي. وهذا -كما أسلفنا القول- يرجع إلى الاحتكار الذي تترتَّب عليه عديد الأعراض والسلبيَّات المدمِّرة؛ مثل: الغلاء، والغش. وخلال السنتين الأخيرتين، تكشَّفت لنا كثيرٌ من وقائع الغش التجاري في المواد الغذائيَّة وقطع الغيار.

وفي سياق ذي صلة، يُمكن تثمين قرار مجلس صندوق الرَّفد الذي اتخذه في اجتماعه الأخير؛ والمتمثل في: تخصيص مبلغ خمسة ملايين ريال لإنشاء ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في مجال قطع غيار السيارات، وهي خُطوة يُمكن التأسيس عليها لفك الاحتكار الحاصل الآن في هذا القطاع؛ فمن جهة: تنعش هذه الخطوة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة العاملة في هذا المجال، وتشجِّع عددا من شباب الوطن على ارتياد آفاق ريادة الأعمال عبر هذا النشاط، وهي نقطة -كذلك- يُمكن أن تعزِّز توجُّه الحكومة لدعم قطاع ريادة الأعمال وفق خطة شاملة للإصلاح الاقتصادي، وتطوير القطاع الخاص العُماني ليتعزَّز دَوْرُه كصاحب مُبادرة، وصانع فرص حقيقيَّة للنمو والتوظيف، خاصة وأنه يُعوَّل عليه مُستقبلا في خلق آلاف الفرص الوظيفيَّة لأبنائنا في مُختلف الأنشطة والميادين. ودُوْن خلق بيئة مُحفِّزة للنمو الاقتصادي بعيدًا عن مفاصل الاحتكار، لن نتمكَّن من مُواجهة التحدِّيات التي تُواجه مسارنا التنموي؛ والتي أولى مُتطلبات مُواجهتها: روح الفريق الواحد (حكومة وقطاعًا خاصًّا)، إضافة إلى اعتماد الأسلوب العلمي والمنهجي المدروس في التعامل مع هذه التحدِّيات وتذليلها.

... إنَّ المَسِيْر نحو استكمال منظومة دولة القانون، وإعلاء بنيانها المؤسَّسي ليس بالأمر السَّهل، بل مُمكن وسيحصل -بإذن الله- مع توافر الرؤية السياسيَّة التي تُمثلها الإرادة السامية لحضرة صاحب الجلالة؛ والهادفة إلى تدعيم مكانة بلادنا كدولة عصريَّة. وهذا التصميم على بُلوغ الهدف الأسمى، يجعلنا جميعًا مُنسجمين، ونعمل معًا يدًا واحدة من أجل عُمان الحضارة والتقدُّم.

تعليق عبر الفيس بوك