التعليم.. كأولوية لمجتمع معرفي

 

 

د. رضية بنت سليمان الحبسية

أستاذ الإدارة التعليمية المساعد بجامعة نزوى

 

يُقاس تقدم الأمم بجودة التعليم الذي تسعى الدول إلى تحقيقه، وفق مؤشرات يمكن قياسها بناءً على الأداء الفعلي والممارسات التطبيقية لمجالاته الرئيسة، وكما إن الاحتياجات الأساسية للإنتاجية والتنافسية بين الدول، تتمثل في توفير المخرجات التعليمية المؤهلة، فإنّ ما سعت إليه رؤية "عُمان 2040" في محورها الأول من ضرورة تطوير الأنظمة التعليمية بجميع مستوياتها وتحسين مخرجاتها، يُعدّ فرصة للنظام التعليمي المدرسي لمواكبة المستجدات العالمية؛ لضمان مخرجات قادرة على المساهمة في اقتصاد المعرفة.

وحيث إن المدرسة هي الوحدة الأصغر في النظام التعليمي، التي أُسندت إليها مهمة تنفيذ السياسات التربوية، وتحقيق الأهداف التعليمية، فإنّ المسؤولية جسيمة على إداراتها للقيام بتلك المهمة على الوجه المنشود. ومن خلال هذه المقالة سيكون محور التركيز على مجالات العمل المدرسي الآتية: الإدارة المدرسية، التّعليم، والتّعلم.

المجال الأول: الإدارة المدرسية.

يُشير مفهوم الإدارة المدرسية إلى عمليات التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، كعمليات أساسية للعمل الإداري. ولكي تتحق أهدافها، يتطلب توفر موارد بشرية، ومادية على حد سواء. بالإضافة إلى تمكين الكوادر البشرية للقيام بمهامها التربوية والتعليمية، بشقيها الإداري والفني. فضلًا عن ضروروة مواكبة المستجدات العصرية في علوم التربية والتعليم، وما تفرزه البحوث من نظريات وتطبيقات لتطوير وتجديد العمل التربوي؛ لتنشئة أجيال قادرة على التعايش مع العصر الرقمي والتقني، في ظل الثورة الصناعية الرابعة. وذلك بتسليحهم بمهارات العصر وتمكينهم من أدواته اللازمة؛ للمشاركة الفاعلة في بناء اقتصاد معرفي قادر على تحقيق الميزة التنافسية، وصولًا لمستويات متقدمة إقليميا، ودوليًّا.

وحيث إن أنظمة التعليم في الألفية الثالثة تحرص على تخريج كوادر تعليمية عالية الكفاءة، فإنّ ذلك يفرض على الإدارة المدرسية تبنيّ الاتجاهات والمفاهيم الحديثة في الإدارة والقيادة، ومن هذه الاتجاهات، القيادة التعليمية التي تؤكد على ضرورة امتلاك مدير المدرسة القدرات والخبرات التي من خلالها يستطيع تحقيق النجاح المرجو في مدرسته، من خلال نشر رؤية وأهداف المدرسة؛ لضمان تحقيقها بالتعاون المشترك بين أعضاء مجتمع التعلم المهني المدرسي من إداريين وفنيين . الأمر الذي يتطلب معه تغيير أدوار الإدارة المدرسية، بحيث تكون قادرة على قيادة التغيير، وتوظيف أفضل للقدرات والإمكانات المتاحة، بما ينعكس على مخرجاتها البشرية.

كما إنّ للإدارة المدرسية أدوارًا أساسية في العملية التعليمية التعلمية، فهي المسؤولة عن تنفيذ سياسات التعليم في إطار التوجهات المتجددة وخطط التطوير التربوي المستمرة. وفي ظل التغير الحاصل في مجال القيادة التربوية، فقد تطورت معه أدوار مدير المدرسة، من قائد إداري إلى قائد تعليمي، تُوكل إليه مهام القيادة التعليمية التي تركز على جودة مخرجات العملية التعليمية التعلمية. لذا ينبغي أن يتصف هذا المدير بخصائص مهنية وشخصية، كمهارة قيادة المواقف، امتلاك مهارات الاتصال والتواصل، التفاعل مع المعلمين والطلاب وأولياء الأمور، تكوين علاقات إيجابية مع المعلمين، ومشاركة واسعة للأطراف كافة في اتخاذ القرارات التي تتعلق بالعمل المدرسي.

المجال الثاني: التَّعليم.

يرتبط مجال التعليم بأدوار وممارسات المعلمين التعليمية والتربوية في البيئة المدرسية. حيث تتمثل الأدوار التعليمية في الاستغلال الجيد للموارد المتاحة للتخطيط الفاعل؛ بهدف تطوير التعليم وتجويد مخرجاته. على سبيل المثال: تنفيذ المناهج الدراسية وفق خطط سنوية شاملة، الإعداد الجيد للتدريس التفاعلي والإيجابي، والتخطيط الإبداعي لتحقيق الأهداف التربوية والتعليمية من خلال برامج وأنشطة ومبادرات، وبمشاركة مجتمعية. وحتى يتمكن المعلمون من القيام بأدوارهم المهنية والوظيفية، لابد من تمكينهم فعليّا، وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للمساهمات الفردية والجماعية؛ للإرتقاء بالأداء المدرسي.

وإلى جانب أدوار المعلم التعليمية والتخطيطية، فإنّ  أدواره التربوية لا تقل أهمية عن أدواره الفنية. فهي أدوار مكملة ومساندة، بل وأساسية لنجاح العملية التعليمية التعلمية. حيث ترتبط هذه الأدوار بعلاقته بطلابه، زملائه المعلمين، وعلاقته بأولياء الأمور والمجتمع المحلي. كما أن نجاحه في تحقيق علاقات تربوية، تمثل بنيّة قوية للإنطلاق في ممارساته التعليمية اليومية. ولتحقيق أداء فاعل، فإنّ ذلك مرهون بمدى قدرة المعلم للعمل بروح الفريق مع زملائه، في إطار الثقة المتبادلة من أجل تحقيق أهداف العملية التربوية.

ومن الأهمية القصوى لنجاح المعلم في أدائه لأدواره التربوية، بناء علاقات وروابط متينة مع طلابه، بمنحهم الثقة والفرصة للتعبير عن آرائهم ورغباتهم، واحترام قدراتهم وامكاناتهم، وتقديم الرعاية الأبوية لهم؛ من أجل تحسين قدراتهم التعليمية في جو من الألفة والطمأنينة. بالإضافة إلى تكوين روابط قوية مع أولياء أمور الطلبة والمؤسسات المجتمعية؛ لضمان تعاون مشترك لمصلحة الطلبة، وتقديم الدعم اللازم لتحقيق أهداف التعلم، من خلال استغلال الفرص المتاحة للتغلب على التحديات التي تواجه سير عمله، وحل المشكلات الطلابية للعبور الآمن بهم إلى بر الأمان، مساعدتهم على بلوغ الأهداف التعليمية، وإكسابهم مهارات التعلم الضرورية لعصر العولمة، في ثوب من العادات الحميدة والسلوكيات الحسنة التي تجعل منهم مواطنين صالحين قادرين على المساهمة الإيجابية في بناء الوطن.

ولأجل تمكين المعلم من ممارسة أدواره بشكل فاعل، لا بد أن تكون لدى المؤسسة التربوية رؤية واضحة لتنمية قدراته ومهاراته. حيث يتطلب تعريفه بمتطلبات الوظيفة والمجالات المرتبطة بها،  كالمعارف العامة والمهارات المهنية، والمعارف الفنية والتخصصية. بالإضافة إلى تبصيره بمصادر تطوير أدائه المهني، من خلال برامج تدريبية وتنموية تستهدف الجوانب الفنية المرتبطة بالتدريس، وبأدواره الإدارية المرتبطة بعمله كموظف ينتمي لمؤسسة تربوية. وفي سبيل سعي المعلم للقيام بمهامه المهنية كما هو مأمول، فهو بحاجة إلى جرعات كافية من التحفيز والتشجيع؛ دعمًا له لبذل مزيد من الجهد، واستمرارًا للعطاء، وتحقيقا للتميز في الأداء، بما ينعكس إيجابًا على مستويات الطلبة والعمل المدرسي بشكل عام.

المجال الثالث: التَّعلم.

يرتبط هذا المجال بالمتعلم، الذي يمثل المحور الرئيسي للعملية التعليمية التعلمية، وهدفها الجوهري. حيث وُجِدَت الأنظمة التعليمية لتكوين مخرجات معتزة بهويتها، ملتزمة بقيم المجتمع، مخرجات تتسم بالإبداع والابتكار من خلال عمليتي التعليم والتعلم الشامل والمستدام. ولن يتحقق ذلك إلا بإكساب المتعلمين المهارات، وامتلاكهم الكفايات التي تجعلهم قادرين على العطاء والإنتاج، بما يساهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والنهوض بها .

وفي  ظل الألفية الثالثة، واهتمام الدول بالمستقبل بدرجة أكبر مما كان عليه في فترات سابقة، فإنَّ أهمية امتلاك الطلبة لمهارات التعامل معه، بات أمرًا ملحًا، وإجباريًا لا اختياريًّا؛ لتتمكن المجتمعات من  مواكبة التغيرات العالمية والكوكبية في شتى مجالات الحياة. والذي لن يكون لها إلا بكوادر وطنية تنافسية، تمتلك مهارات عالية؛  لمواجهة تحديات المستقبل والتأقلم معها بطريقة صحيحة.

ويأتي الإطار الوطني العماني لمهارات المستقبل 2021، مؤكدًا على أهمية امتلاك المتعلمين لعدد من المهارات التي تشكل شخصية الفرد المتكاملة في العصر الرقمي والتقني، وهي: المهارات الأساسية، والمهارات التطبيقية، والمهارات التقنية؛ كونها تمثل المهارات المستقبلية الضرورية لتطوير الكوادر الوطنية؛ لتوائم متطلبات سوق العمل المحلي والعالمي. وتأتي الأنظمة التعليمية في الخط الأمامي؛ لمساعدة مخرجاتها للتكيّف مع العالم الخارجي، والمساهمة الفاعلة في تقدّم ورقي المجتمعات، والمشاركة في بناء الاقتصاد المعرفي.

فعلى سبيل المثال، على المناهج التعليمية أن تركز بأهدافها الشاملة، على تطوير المهارات الأساسية لدى المتعلمين، كبناء قواعد ومنطلقات تُمَكّنهم من التعلم، وتطوير المهارات البحثية لديهم. بالإضافة إلى تزويدهم بالمهارات العملية والتطبيقية التي تساعدهم على تكوين شخصية عملية علمية، كمهارة التعلم الذاتي، مهارة حل المشكلات، التفكير الناقد، الاتصال والتواصل، حب الإبداع والابتكار وتقديم المبادرات، القدرة على المرونة والتكيّف مع المستجدات، مهارة العمل التعاوني والاندماج في فرق عمل  لتحقيق أهداف مشتركة؛ لبناء مجتمعاتهم وتطوير خدماتها، وسبل العيش فيها.

وفي خضم الاندماج العالمي، وهيمنة الثورة الرقمية والتقنية، فإنه لزامًا على أنظمة التعليم اليوم، العمل على تنمية قدرات الأجيال الحالية على تفعيل تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، مع تعزيز مفاهيم المواطنة الرقمية لديهم، والالتزام بالضوابط والتشريعات المنظمة للاستخدام الآمن لشبكة المعلومات والاتصالات العالمية (الإنترنت) بما يحافظ على هويتهم، وعدم الذوبان في ثقافات غربية، أو الانصهار في مجتمعات أجنبية تفقدهم كيانهم، أو تُضعف انتمائهم لأوطانهم. وهنا يكمن دور المدرسة التوعوي والتثقيفي من خلال برامج فاعلة؛ لإكساب المتعلمين المعارف والمهارات اللازمة للتعامل مع التقنيات الرقمية والأجهزة الذكية لتحقيق أهدافهم التعليمية، بعيدًا عن المؤثرات الخارجية.

الخلاص.. إنّ الزخم التطوري المتسارع بفعل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، وما شهده العالم من تغيّرات في مجالات الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، جعل مواكبة تلك التغيّرات أمرًا حتميًّا، من خلال اكساب المتعلمين مهارات المستقبل اللازمة للتكيّف الإيجابي في التعامل مع متغيرات العصر الرقمي والتقني. كما إنّ تمكين الإدارة المدرسية من قيادة المدرسة، وتطوير إمكانات العاملين فيها، بما يقود إلى تعليم وتعلم مستدام، يجعل من القائمين على الأنظمة التعليمية أكثر حرصًا للعمل الدؤوب، والاستفادة من معطيات الثورة الصناعية الرابعة، وذلك من خلال رفع جودة التعليم المدرسي، وتطوير المناهج والبرامج التعليمية المنهجية واللامنهجية، بحيث يصبح خريجو النظام التعليمي مؤهَّلين بقدرات ومهارات منافسة عالميًّا؛ بما يحقق الرفاهية والتقدم للمجتمع وأفراده. الأمر الذي يفرض على منسوبي النظام التعليمي على اختلاف مستوياته وتنوع اختصاصاته، تبنيّ الإطار الوطني العماني لمهارات المستقبل 2021، فكرًا، وتخطيطًا، وممارسةً، والذي جاء منسجمًا مع ما أكدته رؤية "عُمان 2040" من أهمية لبناء رأس المال البشري، الذي يمثل الثروة الحقيقية لأي مجتمع، وهو ما يُعرف اليوم بعامل المعرفة "Knowledge Worker".

تعليق عبر الفيس بوك