ثورة التعليم الذاتي: هل مات التعليم التقليدي؟

 

 

محمد بن زاهر العبري

في زمنٍ تتسارع فيه عجلة التكنولوجيا وتتشكل ملامح المُستقبل بوتيرة غير مسبوقة، تتصدر عبارة "التعليم الذاتي" المشهد؛ كعنوانٍ لتحوّل جذري في طريقة اكتساب المعرفة.

ولم يعد المُتعلِّم أسير جدران الفصول الدراسية أو رهينًا لجداول المحاضرات؛ بل أصبح قائدًا لمسيرته المعرفية، ينتقي المصادر، ويختار الوقت، ويرسم الطريق وفقًا لإيقاعه الخاص. ولكن، هل يعني هذا أن التعليم التقليدي قد لفظ أنفاسه الأخيرة؟ أم أننا نعيش لحظة تصادم بين منهجين لا بد أن يتكامل أحدهما مع الآخر؟

شهد العقد الأخير قفزات نوعية في أدوات التعليم الذاتي، بداية من المنصات الرقمية إلى الدورات المفتوحة (MOOCs)، مرورًا بقنوات المعرفة المرئية والتفاعلية. بات الهاتف الذكي مكتبة متنقلة، وبات اليوتيوب أستاذًا متعدد التخصصات، وأصبح الوصول إلى المعرفة أكثر ديمقراطية من أي وقت مضى. هذا التحول لم يعد مقتصرًا على المهارات العملية أو الهوايات؛ بل أصبح يشمل التخصصات الأكاديمية العميقة، مثل علوم الحاسوب، والفيزياء، وحتى الفلسفة.

ومع هذا الزخم، بدأ كثيرون ينظرون إلى التعليم التقليدي كهيكل متقادم، يرزح تحت وطأة البيروقراطية والمناهج الجامدة، ولا يواكب روح العصر. يتساءل البعض: لماذا أضيع سنوات طويلة في قاعات جامعية أستمع لمحاضرات قديمة، بينما أستطيع تعلم نفس المادة – وربما بطريقة أكثر تشويقًا – عبر منصة إلكترونية وأنا في غرفة نومي؟ ولماذا أدفع مبالغ طائلة للحصول على شهادة، بينما يُمكنني إتقان المهارة عمليًا عبر التدريب الذاتي والعمل الحر؟

غير أن الصورة ليست بتلك البساطة. التعليم التقليدي، رغم عيوبه، لا يزال يحتفظ بجوانب لا تعوّض: التفاعل البشري، بيئة التعلم الجماعي، التأطير المنهجي، والتقييم الأكاديمي المحكوم بمعايير دقيقة. ففي حين يُغري التعليم الذاتي بالمرونة، إلا أنه يتطلب انضباطًا ذاتيًا عاليًا، لا يتوافر للجميع. كما أن هناك تخصصات- كالطب، والهندسة، والقانون- لا يمكن إتقانها بالكامل دون إشراف مباشر وتجربة ميدانية مضبوطة.

في الحقيقة، لا يتعلق الأمر بموت التعليم التقليدي؛ بل بإعادة تشكيله. فالعالم لا يسير نحو إلغاء الجامعات؛ بل نحو إعادة تعريف دورها. في هذا السياق، ظهرت نماذج هجينة تجمع بين التعليم الذاتي والمنهجي، وتُعيد توزيع الأدوار بين المعلم والمُتعلِّم. أصبح الأستاذ موجهًا بدلًا من ملقّن، وأصبح الطالب شريكًا نشطًا في بناء المعرفة. وأضحت الجامعات الذكية تدمج المنصات الرقمية في برامجها، لتجعل التجربة التعليمية أكثر تشاركية وتكيّفًا مع احتياجات كل طالب.

ما نعيشه اليوم ليس إعلان وفاةٍ لنظام؛ بل ولادة جديدة له. التعليم التقليدي لم يمت، لكنه يُجبَر على أن يتطوّر، ليواكب جيلًا لا يرضى إلا بما هو مرن، متجدد، ومحفّز. أما التعليم الذاتي، فليس بديلًا كاملًا؛ بل أداة تمكين، تكشف عن القدرات الفردية، وتفتح نوافذ التعلم المستمر في عالم لا يعترف بالجمود.

لقد غيّرت ثورة التعليم الذاتي شكل العلاقة بين الإنسان والمعرفة، لكنها لم تقطع صلتنا بالتعليم المنظّم. السؤال اليوم لم يعد: أيّ النظامين هو الأفضل؟ بل: كيف نصنع تعليمًا يدمج بين حرية التعلم الذاتي وصلابة الإطار الأكاديمي؟ المستقبل لا يُقصي طرفًا؛ بل يصهر التجارب ليولد منها نظامًا أكثر شمولًا وإنسانية. فالتعليم في جوهره ليس مجرد طريقة؛ بل رحلة تستحق أن تكون مرنة، عميقة، ومستمرة مدى الحياة

والسؤال الذي يتعلق بنا نحن العُمانيين هو: إلى أين يمضي بنا نظامنا التعليمي الحالي؟ ومتى ستشهد أنظمته التطور؟

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة