بيت الصفاة.. مَجْدٌ عُمانيٌ يتَّكِيءُعلى خَاصِرةِ التَّاريخِ

...
...
...
...

ناصر أبو عون


كانت أشعة الشمس تُرخي سدولها على حارة (الصلف)، وكان الشِّعر يُرخي أوزانه وقوافيه، وتصدح أنغامه على لسان الحادي رفيق الرحلة وصديق الركب والمرشد السياحي التطوعي الشاعر أحمد بن هلال العبري مرتلا في هاجرة النهار مطلع قصيدة الشاعر الشيخ غصن بن هلال بن محمد العبري التي يقول فيها:
عرج إلى الحمراء والجبل الأشم
                                   وتعشق (المسفاة) تبهرك الهمم
وانظر إلى بيت (الصفاة) معانقًا
                                   الشـــامخات الباسـقات مع القمم

في الطريق سألنا المرشد عن معنى (الصفاة) فتذكرتُ ما ورد في معجم اللغة العربية المعاصر قولهم: صافَّة [مفرد]: ج صافّات، وصَوافُّ: صيغة المؤنَّث لفاعل صفَّ1/ صفَّ في وصفَّ2: "{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ}- {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}- {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}"ـ وسكتَ الجميع عن الكلام المباح فأردف شاعرنا ورفيقنا قائلا: {صَفَاة [مفرد]: ج صَفَا: صخرة ملساء عريضة} كانت السيارة تواصل هبوطها من تلّة (الشرف) حيث قضينا ليلتنا الفائتة في (استراحة الهوتة) وفي الصباح واصلنا المسير؛ وصل الركب إلى بيت الصفاة {مركز مشيخة قبيلة (العبريين)} وسط حارة (الصلف) الذي مازال واقفًا شامخًا متكئًا على كبريائه، متوكئًا على عصا التاريخ يعيد إلى ذاكرة العابرين والقاطنين أيام مجدٍ لم تخبو، ومازال رحيقها يوزّع حكاياته، ونسائمه على القادمين من البوابات الأربع (صباحات) للولاية النائمة في حضن جبال الحجر.
 بيت (الصفاة) الذي يعود بناؤه للقرن الأول الهجري  يشي – من الوهلة الأولى – لدارسي الانثربولوجيا، وباحثي الأروكولوجيا، والمتخصصين في الهندسة المعمارية أنّ له وظيفة أمنيّة، وسلطة اجتماعية يتضح ذلك من (الطريق الوسطى) بين بوابتي (المغري)، و(النعب)، والواصلة بين سبلتي (السحمة)، و(الصلف).. فمن شرفات البيت في الأدوار العلوية الأربعة، والمطلة على الطريق الوسطى يسطيعُ الجالس مراقبة (الضيوف القادمين) فيخرج لاستقبالهم ويقودهم مباشرةً إلى (سبلة الصلف).
على مسافة تُقدّر بخمسين كيلو مترا غرب ولاية نزوى تقع ولاية الحمراء.. على سفح الجبل وقفت البيوت الطينية في هيئة حرّاس مدججين يدٌ تصافح الضيوف، وأخرى تحمل الدروع المصفحة متأهبةً للدفاع والذود عن حياض الوطن.. شاهدتُ هناك البيوت تتراص مصفوفة وفق رؤية معمارية علمية تستشرف المستقبل فقد أدرك الساكنون الأوائل أنَّ الماء المنحدر من أعالي جبال الحجر في موسم الأمطار قد ينخر أساسات القرية فيرديها على رؤوس ساكنيها فابتكروا وتوافقوا على تصميم بنيوي وعملاني، ووقائي لـ(طرقاتها) لتتخذ شكل وتعريجات الجداول النهرية المُبَطَّنة جدرانها بالصخور الصلدة والجرانيتية حتى تتمكّن من استقبال مياه الأمطار  وتصريفها بعيدا عن البيوت ومداخلها.
تبدو بلدة الحمراء القديمة من خلال نظرة أفقية ورأسية للواقف على تلال جبال الحجر وكأنها جونيّة مخروطية الشكل ربما كان ذلك لاعتبارات أمنية حيث وجدنا الأبراج التحصينية تحيطها في قطر دائرتها الأوسع، ثم تأتي بيوت حارة الصلف في شكلها المعماري على هيئة (سور حمائي) ومتراص على شكل قوس حربي من الجهة الجنوبية.
وعندما حطّ ضيوف صالون سعيدة بنت خاطر الفارسية رحاله على باب الحارة ترّجل الضيوف من الشعراء والإعلاميين إلى داخل (بيت الصفاة – البيت العالي الكبير) توقّف - كاتب هذه السطور – على وقع صوت الشيخ القاضي محمد الفارسي راجيًا بصوت الأب التقاط صورة منفردة له أمام بوابة خشبية عتيقة.
صعد الشيخ القاضي إلى أعلى ووقف الباب الذي استند إليه وحيدًا لكن نقوشه ومنحوتاته وحفرياته كانت تحكي قصة صناعته، وتصدح بتاريخ صانعه، وتسرد حكاية صاحبه.. كان الباب يقف شامخًا في مدخل حجرة من الدور السفلي يسمونها (حجرة المؤنة) منقوش على خشبه العتيق أبيات شعرية احتلت واجهته ومؤرخةً للسنة التي صُنِعَ فيها الباب 1101 هجرية، ومثبتةً اسم (الصانع: محمد بن راشد)، والآمر بالتصنيع: الشيخ محمد بن يوسف بن طالب العبري.
لقد صنع البــاب الحكـيم محـمد
                              فتى راشد هو الحكيم الممجد
لعــشـر قـد خـــلون وليلـة بــذي
                              القعدة المعروف شهـر محـدد
في مـائة حـول وألــف تكامـلـت
                              وعام علـى مرّ الحساب يردد
لوالي إمام المسلمين ابن يوسف
                               فتى طالـبٍ ذاك الرضـى محمد

استدعى بيت الصفاة مخزون ذاكرتي الطفولية فأساساته الضخمة والعتيقة والتي قاربت مساحاتها أو تزيد عن المتر  تشبه كثيرا البيوت الطينية للقبائل العربية التي استوطنت جنوب مصر؛ المسمى بـ(الصعيد) وحاراته الضيقة، وكأنما العرب بسلالاتهم الآتية من جنوب شبه الجزيرة العربية وأوسطها بذرة وراثية أينما رحلت وحلّت غرست جذورها، وتبرعمت بتلاتها، وتطاولت أغصانها، وعندما تسقط تيجانها في نهايات الشتاء تحملها رياح الخماسين بعيدا لتعيد إنتاج سلالتها ذاتيًا لتوّزع جيناتها من المحيط إلى المحيط من أقصى بلاد المغرب العربي إلى أقصى بلاد عُمان وحضارة الأزد في الجنوب الشرقي المطل على المحيط الهندي وبلاد بحر العرب، وعلى ضفتي الخليج.
لقد تفنن البنَّاء العُماني في جعل (بيت الصفاة) تحفةً معمارية مصنوعة من الطوب اللبن وهو مزيج من (الطين المعشّب)؛ أو (خلطة طينية عُمانية) ربما تفرّدت بها ولاية الحمراء عن سائر المدن العربية؛ فقد ذكر صاحب كتاب (ولاية الحمراء.. بلدان وقبائل) بأنّ أهل الحمراء كانوا يخلطون (الطين والتبن والصوف والتمر) ثم ينثرون قطع النقود المعدنية (لبيسات) داخل القوالب ثم يصبون خليط الطين ليصير فيما بعد قوالب جافة، وللتأكد من صلابة هذه القوالب وصلاحيتها للبناء كانوا أهالي الحمراء يطلبون من أطفالهم البحث عن البيسات المعدنية داخل القوالب.
في داخل بيت الصفاة وفي حوائطه المنبعثة منها رائحة التاريخ والمجد الأثيل تأتي الزخارف كوظيفة جمالية وليست زوائد مبالغًا فيها أو تنويعات زخرفية متراصة بطريقة عشوائية رغم بساطتها بالإضافة إلى براعة البَنَّاء في نحت (جذوع النخيل)، وتهذيبها وترصيصها في (الأسقف) على مسافات متساوية فبعد أن نجح - وعبر بساطته  المعمارية - في (تمليس) السقوف المصنوعة من (جريد وسعف النخيل) المغطَّى بـ(الليف) والمجصص بالطين اللبن والحصى المتناهي في الصغر لتمثل رؤية بصرية متناسقة مع ارتفاع الجدران المغلّفة بالطين الأملس.
إذا كانت عمارتنا العربية وتقاليدنا البدوية، وأصالتنا الضاربة في جذور التاريخ نجحت ببراعة لا نظير لها في إدخال السائح الأجنبي إلى حالة غرائبية من الدهشة في أقل جزء من الثانية؛ إلا أنّ الشخصية العربية تحتاج إلى استنفار بدرجات عالية، لمكونات الشخصية، ونبش بنيتها الثقافية. والحقيقة أنّ زيارة وفد الشعراء العمانيين والعرب بريادة سعيدة بنت خاطر الفارسية إلى بيت الصفاة وكنتُ بصحبتهم كسرت هذه القاعدة السالفة الذكر تمامًا. فعندما دلف الشعراء إلى (دهليز البيت) الخلفي أو ما يسمى في صعيد مصر بحجرة الفرن شاهدتُ الشاعر عبد الرزاق الربيعي يقفز مفترشًا الأرض بجوار صانعة خبز الرخال غير آبهٍ بحالته الصحية التي تُلزمه البقاء واقفا على ساقين واحدة عظامها الشعر، والأخرى سنامها الجمر، بينما قفزت شاعرة قصيدة النثر وبنت البادية فوز ريا لتجلس في حجر امرأة عُمانية تجلس القرفصاء وتطحن الأعشاب البرية في أهوان تقليدية متوارثة، وتخلط دقيقها بمجموعة من الزيوت النباتية المستخرجة من نباتات الجبل لترسم بيدها على جبينها الأبيض خط السعادة والفأل الحسن بمعجون الصندل.
وُعيد الانتهاء من زيارتنا لـ (بيت الصفاة)، انتقلنا إلى (بيت الغنيمة) لتناول وجبة الغداء في ضيافة الشاعر أحمد بن هلال العبري وأهل قبيلته وقد حكى للوفد نبذة من تاريخ البيت الذي كان مسرحًا لملاعب الصبا مؤكدا على دوره ووظيفة البيت الذي تمّ تشييده في عام 1308 ميلادية في إدارة شؤون قبيلة العبريين المتتدة جذورها وفروعها في العديد من ولايات سلطنة عمان متكئًا على معلومات تاريخية أثبتها الشيخ محسن بن زهران بن محمد العبري في كتابه (ولاية الحمراء.. بلدان وقبائل ط1، 2015).

تعليق عبر الفيس بوك