استوقفتني وبشكل لافت صورة معبّرة تناقلتها الوكالات للقاء جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إبّان زيارة الأخيرة لموسكو.. ويبدو في الصورة كلب الرئيس بوتين متصدرًا المشهد؛ فيما علامات الخوف وعلامات التوتر تبدو جلية على وجه ميركل في الزاوية اليسرى من الكادر، ولغة جسدها توحي بالاضطراب، والتسمّر في كرسيها من احتمالية اقتراب الكلب المرعب منها.
قد لا يبدو المشهد بريئاً، خاصة عندما يتصدّر الصفحات الأولى في كبريات الصحف العالمية، كصورة رئيسيّة للمحادثات التي كان محورها أزمة القرم.. حيث رأى كثير من المحللين أنّ الصورة مقصود تمريرها من قبل روسيا، وليس من قبيل الصدفة؛ لتكون بمثابة رسالة واضحة وبليغة يوجهها بوتين إلى الأوربيين بألا تعبثوا مع الدب في حديقته الخلفيّة، وحماه الأوكراني.
الأزمة الأوكرانية؛ وتوابعها من ضم روسيا للقرم، والاستنكار الغربي للإجراء، نجم عنها زخم أعاد للأذهان أجواء الحرب الباردة بين القطبين..
ورغم قناعتي بأنّ شبح الحرب الباردة لا يمكن أن يعود بمثل ما كان عليه الحال قبل عشرين عاماً؛ إلا أنّ روسيا تبدو الآن غير مستعدة للتهاون أو التنازل عن مجالها الحيوي.. بينما يسعى الغرب إلى اختراقه عبر إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي -سابقا- وهي أوكرانيا.
وما نراه الآن من توترات بين الغرب وروسيا؛ من المستبعد أن يصل إلى حد المواجهة العسكرية المكشوفة، رغم أنّ التصعيد المتبادل يوحي بذلك.
لقد تغيّر العالم كثيراً بعد الخامس والعشرين من ديسمبر من العام واحد وتسعين وتسعمائة وألف؛ وهو تاريخ انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه إلى جمهوريات متعددة، وليس من الصدفة أنّه وخلال ذات العام، دكّت الترسانة المسلحة للولايات المتحدة أرض العراق بأقوى القنابل في التاريخ، وأكثر الصواريخ فعالية تدميرية في العالم.. أطلقتها للمرة الأولى؛ ليكون العراق مسرح تجربتها الدامي بعد أن أوقعت آلاف الضحايا، وألحقت دمارًا واسعًا وغير مسبوق في التاريخ، ويرجع السبب في ذلك إلى أنّ أمريكا حوّلت بوصلة ترسانتها التسليحيّة المتقدّمة والتي كانت مصوبة تجاه روسيا وأوروبا الشرقية (في ما يُعرف بحرب النجوم) إلى العراق؛ التي لا تضاهى مساحتها ولا إمكانياتها بولاية كاليفورنيا..!
نستطيع القول: إنّ العراق - صاحب أقدم حضارة في التاريخ البشري- هو أول من دفع ثمن انفراد القطب الواحد بالهيمنة على العالم؛ ليكون مسرحًا لحرب شهدت استخدام أحدث الترسانات الناجمة عن سباق تسلح محموم، وحرب باردة؛ استخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والناعمة بين أعتى قوتين عسكريتين في العالم.
فصل مرعب في التاريخ استمر لأكثر من عقدين، أطلق عليه الياباني المتأمرك فوكوياما "نهاية التاريخ"، ولم يكن يدرك حينها أنّ درس التاريخ الأول هو أنّ حتى أكبر الإمبراطوريات تشيخ وتتلاشى قوتها؛ لتبدأ قوى أخرى في الصعود.. هكذا هي دورة التاريخ، وقد أشار إليها ابن خلدون في مقدمته الخالدة قبل قرون خلت؛ في قلعته بصحراء الجزائر.
وعندما أجزم بصعوبة عودة الحرب الباردة بصورتها القديمة؛ إنّما استند على أنّ المعطيات اختلفت، وكذلك اللاعبون، وقواعد اللعبة.. مما يضعف احتمالية أن تخيّم أجواء الحرب الباردة على سماء العالم مجددًا؛ على الرغم مما يبدو على السطح من توتر بين الشرق الروسي والغرب الأمريكي..
المعطيات المشار إليها آنفًا، تتمثل في أنّ روسيا اليوم أصبحت قوية اقتصاديًا وسياسيًا، فيما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية في طور التراجع والانكماش وخاصة بعد الأزمة المالية التي كشفت عن الكثير من الثقوب في الرداء الأمريكي، ومواطن الضعف لدرجة كادت تطيح بها..
الاقتصاد الأمريكي اليوم مثقل بالديون، ومن المفارقات أن جزءًا غير يسير من هذه الديون - أكثر من 136 مليار دولار- من روسيا مقابل سندات مالية.
إضافة إلى تريليونات الدولارات المدينة بها أمريكا للكثير من دول العالم، وتقف عاجزة اليوم عن دفع فوائدها.
حاول الرئيس الأمريكي باراك أوباما مؤخراً، التقليل من قدرات روسيا وهو يصف النظام العالمي الجديد، مستبعدًا فرضية نشوء حرب باردة جديدة، حيث يرى أن روسيا - خلافًا للاتحاد السوفيتي - لا تقود مجموعة من الدول، كما إنّها ليس لها أيديولوجية عالمية كما كانت في السابق..
وهنا نلاحظ أن كلام أوباما يحمل الكثير من الصحة لأنّ روسيا اليوم تعتمد على الخطاب القومي النهضوي، إلا أن هذا لا ينفي الطموح الروسي في أن تستعيد روسيا أمجادها السابقة .. وهذا لسان حال الرئيس الروسي بوتين يعبر عن ذلك بالقول: "نسعى سعيًا حثيثًا لنصبح قادة في العالم".
ومن المؤكد أنّ روسيا استعادت الكثير من عافيتها، وعناصر قوتها كدولة عظمى، بل أصبحت تقابل الغرب بالكثير من الندية ودخلت معه في تحالفات اقتصادية وتوافقات بعد أن تبنت اقتصاد السوق والمبادئ الرأسمالية، وتخلت عن الايدولوجيا الشيوعية.
وفي الوقت الذي يقوم فيه بوتين باستعادة مكانة بلاده واستعراض قوتها كدولة عظمى، ينحسر الدور الأمريكي على الساحة الدولية.. فهاهو أوباما يخسر في سوريا، ويسجل فشلا ذريعًا في التدخل هناك على الرغم مما أثاره من زوبعة الصيف الماضي. وعلى النقيض من ذلك أثبتت روسيا أنّها غير مستعدة للتخلي عن حلفائها مهما كان الثمن..
وفيما تعلن الولايات المتحدة قرب موعد انسحابها من أفغانستان بعد أن انسحبت من العراق، وظهر عجزها جليًا في عدم القدرة على ضغط إسرائيل للتوصل لحل في الشرق الأوسط ..تزداد أمورها تعقيدًا، مما ينذر بأفول نجم القطب الأمريكي بعد عقدين من الهيمنة، كان العرب فيها – للأسف - من أكبر الخاسرين.. بعد غزو العراق دون شرعية دولية، وتدمير جيشه الوطني ليدخل في دوامة الحرب الأهلية والفقر والجوع بعد أن وعده بوش الابن بالديمقراطية والورود والسلام والحلم الأمريكي الذي تحول إلى كابوس يقض مضاجع بلاد الرافدين بالسيارات المفخخة والحروب بالوكالة..
ومن ثمّ جاء الدور على سوريا التي لا تزال ترزح تحت وطأة الدمار والخراب والموت، بأسلحة شتى..
واليوم تتجه أعين الشر إلى جيش مصر، الجيش الوحيد المتماسك الباقي في المنطقة والذي تعد له سيناريوهات لتدميره من خلال إشغاله بحروب داخلية تستنزفه سنوات، لتكون الكفة العسكرية راجحة لصالح إسرائيل..
وبالتوازي مع ذلك، يتم دعم القوى غير العربية في المنطقة لتكون لها الغلبة، وهي إيران وتركيا وإسرائيل ضمن مخطط استراتيجي مرسوم ببراعة، ويجري تنفيذه بدقة، لتغييب العرب عن السيطرة على منطقتهم وتسليم مقدراتها إلى الآخر.
والمتأمل في تجربة القطب الأحادي الأمريكي خلال ربع القرن المنصرم، يجد أن العرب على الرغم مما قدموه من دعم كبير للأمريكان، إلا أنهم لم يحصدوا سوى الخراب، ربما لأننا ورغم تعاملنا الطويل معهم لم نفهم آليات صنع القرار في واشنطن، وتغاضينا عن حقائق أساسية في الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط التي تقوم على محاور أساسية منها: ضمان تدفق النفط العربي، وضمان أمن وتفوق إسرائيل، وتحقيق هذا الهدف يستوجب عرقلة التنمية الحقيقية وبقاءنا مكانك سر، وتدمير الجيوش العربية الكبيرة تحت مسوغات كثيرة؛ ولكن يبقى الهدف هو ضمان تغول إسرائيل، وكل هذه السياسات نجحت في إيصال العالم العربي إلى حالة من التشرذم والتخلف والبؤس إلا من رحم ربي.
وتستميت أمريكا في تثبيت غرس إسرائيل في قلب العالم العربي، رغم أنه حل غير واقعي من الأساس، وكما قال المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي "هؤلاء اليهود ستبتلعهم الصحراء العربية"، ويدرك الإسرائيليون في أعماقهم تلك الحقيقة، إلا أنهم يحاولون الالتفاف عليهم استقواء بالحليف الأمريكي.
والشاهد أن بناء الصف العربي، كفيل بإحداث توازنات تعيد الأمور إلى نصابها وتجعل من العرب قوة إقليمية ضاربة تمتلك زمام الأمور في منطقتها، وتجاوز حالة الفراغ السياسي الذي استغلته قوى إقليمية أخرى للتغول على أمننا العربي.
وقد يقول قائل: ما مصلحتنا كعرب في اشتعال التوترات بين الغرب وروسيا، نقول: إننا أفضل وضعًا في ظل وجود توازن بين القوتين العظميين، لأننا جربنا الاستفراد الأمريكي بالعالم، وقاسينا ويلاته ونحن أكثر منطقة في العالم دفعت ثمن القطب الواحد.. واليوم علينا أن نستفيد من هذه التناقضات بين القوتين واستثمارها لصالح قضايانا .. وقبل ذلك لا بد لنا من صياغة مشروعنا الخاص وإعطائه الأولوية والتحرك من خلاله..عندها سيحترمنا العالم.