كانتْ الساعة تُشير إلى الحادية عشرة والرُّبع من صباح يوم الخميس، عِندما وصلتُ إلى إحدى المصالح الحكوميَّة لإنهاء مُعاملة لا تتطلَّب سوى دقائق معدُودات، إلا أنَّني فوجئتُ -وآخرون من المُراجعين- بردِّ الموظف بأنَّ الوقتَ لا يسمحُ بإجرائها في آخر يوم من أيَّام الأسبوع؛ لأعذارٍ واهية ضمن ما يُعرف في ثقافة العمل العُمانيَّة بـ"الشَّردة"، والتملُّص من إنجاز عمل اليوم الخامس من الأسبوع، وتأجيله إلى الأسبوع القادم؛ دُون أيِّ اعتبارٍ للوقت، وأهميَّة إنجاز العمل قبل نهاية الدَّوام الرسمي المُمتد حتى الساعة الثانية والنصف ظهرًا.
.. أعاد هذا الموقفُ إلى ذهني موقفَ على النقيض تمامًا يُعلي من قيمة العمل، ويقدِّس الإنجاز؛ عندما كُنتُ مُستمعًا -ضمن آخرين- إلى الرئيس السابق لكوريا الجنوبيَّة، الذي كان بين ظهرانينا في مسقط، الأسبوع الماضي، في حديثِهِ عن عناصر النَّجاح، وعوامل التقدُّم؛ حيثُ عزاها إلى التعليم والإخلاص في العمل؛ مُستشهدًا بتجربته الذاتيَّة، وقصَّة نجاح بلده.
موقفُ الموظَّف الحكومي الذي أرجأ مُعاملتي ومُعاملات أخرى غيرها؛ لتزامُنِها مع "الشَّردة"، ليس موقفاً معزولاً، أو حالة تختصُّ بها دائرة دون أخرى، بل أصبح ذلك جُزءًا من الثقافة العامَّة لموظفي القطاع العام، وظاهرة سلبيَّة تتسبَّب في هَدْرِ الكثير من الوقت والطاقات، بل تُعدُّ شكلاً من أشكال الفساد الإداري الذي يُمارسه الكثيرُ من الموظفين، كما أنَّ اقتصاصَ جزءٍ من أوقات الدوام -سواءً في الحضور المُتأخر، أو الانصراف المُبكر- شكلٌ من أشكال السَّرقة غير المُباشرة؛ فالفسادُ ليس فقط في السَّرقة المُباشرة للمال العام، بل له أكثر من صُورة، وتتعدَّد أوجُهُه وأشكالُه؛ فعدم إنجاز مُعاملات المُواطنين وهدر الوقت المدفوع من المال العام، وعدم توخِّي الأمانة والدِّقة في الإنجاز، كُلُّها من أشكال الفساد، وعلى الفرد أن يعتمدَ مبدأ المُحاسبة الذاتيَّة، قبل أن يُحاسبه مُديرُه أو مسؤولُه المُباشر.
ورقابيًّا؛ على الجهات الإداريَّة تبنِّي معايير قابلة للقياس؛ لتحديد إنتاجيَّة المُوظفين للاستناد إليها في التقييمات النهائيَّة للمُوظف، ومرجعيَّة لمُكافأة المُجيدِين، ومُعاقبة المُتهاونين على أن تتدَّرج العُقوبات حتى تصلَ إلى الفصل النهائي. ومِنْ شأنِ ذلك تصحيحُ المفهوم الخاطئ لدى البعض؛ والقائل بأن الوظيفة الحُكوميَّة مُعطى أبدي، لا يُمكن المساسُ به مَهْما تعدَّدتْ أخطاء المُوظف، وطال أمدُ إهمالِهِ!
وعودةٌ إلى موقف المُوظف الحكومي المُتقاعس عن أداء الواجب بسبب "الشَّردة"؛ فقطعاً لنْ نجدَ له مثيلاً في إدارة خدميَّة في اليابان، أو كوريا الجنوبيَّة، أو تايوان، ناهيك عن الدُّول الغربيَّة الأخرى. فهذه الدُّول تقدِّس قيم العمل، وتعتقدُ في ثقافة العمل، وتتمسَّكُ بها أيما تمسُّك؛ فالياباني أو الكوري أو الماليزي، لا يُمكن أن يُفرِّط في عمله، إلا بشكلٍ استثنائيٍّ، وفي الحدود الدُّنيا.
أمَّا نحنُ، ورغم أنَّ ديننَا الحنيفَ يُعلي من قيمة العمل، ويُساويها بالعبادة، كما في قوله تعالى: "وَقًلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُم ورَسُوْلُهُ والمُؤْمِنُوْن".. وكما في القول المأثور: "العملُ عبادة"، إلا أنَّه -وللأسف- ترسَّخت هذه القيمة الحضاريَّة لدى الآخرين، وفي بلاد بعيدة، وتراجعتْ لدينا.
وعندما نقولُ عن العمل عبادة؛ ففي هذا إعلاءٌ لشأنه، ورفعه إلى مصاف الفرائض؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج؛ فالعملُ كقيمة يحتلُّ مرتبةً عُليا في سُلَّم القيم؛ ذلك أنَّه يمتزجُ بالإيمان، ورسالة الإنسان الأصيلة؛ وهي: عمارةُ الأرضِ. والإخلاصُ في العمل يعني التفاني في إنجازه على أكملِ وجه؛ ابتغاءً لمرضاة الله -سُبحانه وتعالى- أولاً، وخدمة للأوطان ثانيًا، وتحقيقاً للذات ثالثاً.
كما أنَّه -وبفضلِ العمل- تُبنى الحضارات، ويُقام العمران، وتتقدُّم الأمم. والشعبُ الذي لا يُخلص في عمله، يتراجع في سباق الأمم الحضاري.
كما أنَّ الإخلاص في العمل هو طريقُ الثواب في الآخرة، ومسارٌ لتقدُّم المجتمع. ومن هُنا، جاءتْ مقولة عالم الاجتماع الأشهر ماكس فيبر: "النجاحُ في الأرض يقودُ إلى الرِّضا في السماء"، في تحليلهِ العميق لتأثير القيم البروتستانتيَّة في بناء المجتمع الرأسمالي.
إذن؛ فلابُدَّ من البناء النفسي والتربوي للمجتمع، وتحصينه من الشَّوائب في طريق النجاح والتطوُّر والبناء؛ كجزءٍ من منظومة القيم، ومُحاربة النَّزعة الذاتيَّة والأنانيَّة المُدمِّرة للمُجتمعات.
.. إنَّ غرس قيم العمل، وتعزيز ثقافته، ومُعالجة الاختلالات الحاصلة في فهمنا له، تتطلَّب استنهاضَ الجانب الإيماني الذي يرى في العمل فريضة دينيَّة ينبغي القيام بها على أفضل الوُجوه، كما أنَّ علينا العودةَ إلى تفعيل المحاضن التربويَّة فيما يتعلَّق بغرس أهميَّة العمل وتقديسه، وتعميق وعي الناشئة بأخلاق العمل والإتقان والإخلاص والإمانة؛ لتُصبحَ مُكوِّناً أساسيًّا في تركيبتهم النفسيَّة والتربويَّة، وكذلك لغرس ثقافة العطاء للمُجتمع والوطن، بعيدًا عن الذاتيَّة والأنانيَّة المُفرطة التي تحوز ثمار العمل لنفسها دون اعتباراتٍ للمصلحة العامَّة.
ومن أسباب نجاح العديد من الدُّول الآسيويَّة، والتي تُعرف بـ"النمور": أنَّ ثقافة العمل القويَّة تشكلَّت ضمن التركيبة النفسيَّة لشُعوب هذه الدول؛ بحيث أصبحتْ تلك الثقافة بمثابة قواعد أخلاقيَّة يصعُب تجاوزُها.
ومِنَ القيم المُدمِّرة التي ينبغي الوعي بسلبيَّاتها: مفهوم "عبادُة المال"، الذي يُحوِّل المالَ من وسيلة للعيش والسعادة، إلى هدف في ذاته؛ وهو من المفاهيم الهدَّامة التي ساعدتْ على بُروز الأزمات الرأسماليَّة الخطيرة، وكادتْ تُطيحُ بدولٍ عظمى: كالولايات المُتحدة والمملكة المُتحدة؛ فالقيمُ الإيجابيَّة يُمكن أن تنتشلُ أممًا وحضارات، كما أن القيم السلبيَّة قادرةٌ على أنْ تُدمِّر أخرى، وتُلقي بها في الهاوية.
ومن السلبيَّات التي نشهدُها في مُجتمعنا في قضايا التوظيف، ومن الأسئلة الأولى المألوفة: "كَمْ الرَّاتب؟" قبل السُّؤال عن الجهة، أو أهداف العمل، أو مدى انسجام الوظيفة مع التطلُّعات، والطُّموح، والميول، والتخصُّص.. فـ"كَمْ الرَّاتب؟" تعبِّر عن إعلاء قيمة المال أكثر من العمل، وتختصرُ كلَّ الطُّموح في راتب يتم تقاضيه آخر الشهر، دون اعتبار للإنتاجيَّة، أو تحقيق الذَّات، أو العطاء للمُجتمع، والوطن.
وعندما تتصدَّر المادَّة سُلَّم الأولويَّات، ولا تبقى سوى قيم الطَّمع والجشع والأنانيَّة، فإنَّ النتائج ستكون وخيمة على الفرد والمُجتمع.
وكما في موقف مُوظفي "الشَّردة" دروسٌ، تزخرُ التجربة الكوريَّة كذلك بعبرٍ وحِكَم من نوعٍ آخر. ألقى عليها حديثُ الرئيس الكوري السَّابق الكثيرَ من الأضواء الكاشفة التي أبرزتْ ارتكازَ التجربة على محوري "العلم، والإخلاص في العمل".
وهي تجربةٌ جديرةٌ بالتوقُّف عندها، والاستفادة منها، خاصة فيما يتعلَّق بالإخلاص في العمل، وتوظيف العلم والتقنية للإجادة في أدائه.
... نحتاجُ في واقعنا الرَّاهن إلى دعمِ قيم العمل، وفقَ أُسُس علميَّة ومنهجيَّة، مع التركيز على ترسيخ ثقافة حبِّه والإخلاص فيه؛ كأولويَّة ضمن المنظومة التعليميَّة والتربويَّة؛ لأنها عندما تكون جزءًا من النسيج الثقافي، فإنَّه أجدى بكثير من الصَّرف على أساليب الرقابة المُختلفة، كما أنَّ ذلك يُؤدِّي إلى حصد المزيد من النتائج الباهرة، التي تَدْعَم مسيرتنا التنمويَّة.
إنَّ إرساءَ مفهوم العمل كقيمة حضاريَّة لدى الأجيال الجديدة، هو الضَّمانة المُثلى للتقدُّم في سباقنا الحضاري مع الأمم.