تشهد التجربة التنموية العمانية، حراكًا مستمرًا في كافة مفاصلها، لإثرائها بالجديد سواء على صعيد تحديث المفردة الإنمائية لمسايرة معطيات العصر، ومواكبة احتياجات المستهدفين بالعملية التنموية، أو لجهة تطوير آليات تحقيق التنمية وتعظيم فوائدها.. لذا اتّسمت المسيرة التنموية للسلطنة بالديناميكية والحيوية والتجديد على مدار العقود الأربعة الماضية.
ويأتي المرسوم السلطاني القاضي بإنشاء "الهيئة العمانية للشراكة من أجل التنمية" متسقًا مع هذا التوجه الحداثي في مسيرتنا النهضوية.
.. فالكيان يُعدّ دعامة، ولبنة جديدة تضفي على المنظومة التنموية المزيد من التنوع والقوة من خلال تعضيد مبدأ المشاركة بين الحكومة والقطاع الخاص، بما يُسهم في زيادة فاعلية التنمية.
وتعد الهيئة العمانية للشراكة من أجل التنمية، كذلك تجسيدًا واستمرارًا لنسق التجويد في الأداء التنموي، فالهيئة ومن واقع نظامها الأساسي تسعى إلى تحقيق حزمة من الأهداف التنموية، وفي صدارتها توفير فرص لتدريب وتأهيل الكوادر العمانية، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتقوية القطاع الخاص، وتعزيز التقنيات القائمة في القطاعين الحكومي والخاص، ودمج التقنيات الحديثة فيهما، وتعزيز القدرات العسكرية والأمنية للسلطنة في جميع مستوياتها وتيسير الاستثمار والعمل على تنويع مصادر الدخل الوطني وإيجاد اقتصاد مستدام وفعّال..
هذه الأهداف الطموحة يمكن تحقيقها من خلال تطبيق برنامج الشراكة من أجل التنمية، والذي يعتبر نهجًا تعاونيًا يقوم على أساس مكافأة الإنجازات المتوقعة، ويتم تطبيقه بين الأطراف في إطار التعاقدات الحكومية ذات الصلة بالإنشاءات والتوريدات ومشروعات البنية الأساسية وفقاً لضوابط ومعايير محددة.
وقد كفل النظام للهيئة، وجعل من صميم اختصاصاتها، دعم المبادرات الخاصة بتيسير الاستثمار وتعزيز التطور التقني، والعمل على نقل المهارات والخبرات وأفضل الممارسات الدولية في كافة المجالات لوحدات الجهاز الإداري للدولة، وتشجيع الشركات التنافسية القائمة ودعم تأسيس شركات تنافسية جديدة على المستويين الوطني والدولي، ودعم قدرة الجهات العسكرية والأمنية على الإنتاج، وتعزيز المعرفة لديها ونقل التقنيات الحديثة إليها، ودعم قطاعات اقتصادية إستراتيجية من خلال العمل على دمج التقنيات الحديثة فيها، وتحديث التقنيات المستخدمة بها، وتطوير المشروعات ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي حتى ولو كانت غير ربحية خاصة تلك التي من شأنها تعزيز التعليم والتدريب والبحث العلمي، علاوة على دعم وتشجيع تدريب وتأهيل الكوادر العمانية في جميع القطاعات.
ولا شك أن تحقيق هذا الطيف الواسع من الأهداف، والقيام بهذا القدر الكبير من المهام والاختصاصات التي يتطلبها برنامج الشراكة من أجل التنمية، يحتاج توفير الآليات الملائمة، وفي ذات الوقت بلورة وعي مجتمعي برسالة هذه الهيئة، وذلك من خلال المؤتمرات والندوات والدورات وحلقات العمل واللقاءات مع المقاولين والموردين للتوعية بكل ما يتعلّق ببرنامج الشراكة من أجل التنمية، إضافة إلى التنسيق والتعاون البناء مع وحدات الجهاز الإداري للدولة.
ولقد هُيئت كافة أسباب النجاح لهذه الهيئة الوليدة، من حيث التمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وأهلية تملك الأموال الثابتة والمنقولة وإدارتها والتصرف فيها، وإمكانية فتح فروع لها خارج المقر الرئيسي بمحافظة مسقط، في الداخل والخارج، وكذلك إلزام وحدات الجهاز الإداري للدولة المدنية والعسكرية والأمنية، والشركات التي تساهم فيها الحكومة بنسبة تزيد على خمسين بالمائة، بتضمين عقود تنفيذ مشاريع البنية الأساسية، وعقود توريدات الأسلحة والمعدات العسكرية والأمنية التي تزيد قيمتها على خمسة ملايين ريال، وهذه العوامل تكفل للهيئة العمانية للشراكة من أجل التنمية، النجاح في تحقيق الأهداف الكبيرة المعقودة عليها في التطوير وإيجاد قنوات استثمارية جديدة، وتعميق الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص بما يحقق المزيد من الأهداف التنموية الخيرة.
ويمكن لبرنامج الشراكة من أجل التنمية أن يُعظم الاستفادة مما يعرف بـ"الأوفست " ، حيث إنّه ومن المعروف أن عقود التوريدات الحكومية تشمل في كثير من الأحيان التزامات من خلال نظام عالمي يطلق عليه نظام الاستثمار المكافئ ويعمل به في الكثير من الدول ومنها السلطنة، ويسمى أحيانًا برنامج العمليات المقابلة أو التوازن الاقتصادي أو الشراكة الاقتصادية والتعاون الاقتصادي، وهي جميعها مترادفات لمعنى واحد يتمثل في تكريس آليات تعاون لإعادة استثمار تختارها الدول بحسب أوضاعها الاقتصادية وتمشيًا مع قوة اقتصادياتها، بهدف رفع القدرة الاقتصادية وفتح أسواق جديدة والاستفادة القصوى من الانفتاح الذي يتّسم به السوق الدولي بغية نقل التكنولوجيا المتقدمة وتوطين التقنية، الأمر الذي تنتج عنه فرص ومجالات استثمارية جديدة..
حيث إنه وفي عالم اليوم لم يعد مقياس القوة الاقتصادية للدول مقتصرًا على مقدار ما تمتلكه من مواد أولية ووسائل إنتاج متقدمة فحسب، وإنما يشمل قدرتها على الاستفادة من عناصر قوتها وتطويرها من خلال إكمال العناصر التي تفتقر إليها عبر البرامج والآليات المدعمة لإعادة الاستثمار، ويمكن لبرنامج الشراكة من أجل التنمية الإسهام في إعادة توظيف رؤوس الأموال واستجلاب التقنية بما يحقق المزيد من التناغم مع دورة الاقتصاد العالمي، والاستفادة من ذلك اقتصاديًا وعلميًا وتكنولوجيًا من خلال التعاقدات والصفقات الدولية سواء كانت ثنائية أو متعددة الأطراف.
هناك مهام كبيرة تنتظر الهيئة العمانية للشراكة من أجل التنمية، نتمنى لها التوفيق في الاضطلاع بها على الوجه الذي يكافئ التطلعات، خاصة فيما يتعلق بتدعيم الشراكة الحقيقية والفاعلة بين الحكومة والقطاع والخاص، وتفعيل دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة كأوعية استثمارية، في ظل ما تزخر به بلادنا من فرصٍ واعدة بالمرحلة الراهنة متمثلة في مشاريع الطرق والمطارات والسكة الحديد وغيرها من مفردات تنموية عملاقة تهيء للمزيد من الشراكات الاقتصادية..
وختامًا نقول: إنّ الهيئة العمانية للشراكة من أجل التنمية رافد نوعي جديد يضخ في شرايين اقتصادنا الوطني المزيد من عوامل التنوع والمتانة.. والاستدامة.