فاجأتني ابنتي عُلا بصرختها: "بابا حرامي!!"، بينما كُنا نتابع على التلفاز مساء أمس الأول نشرة الأخبار، وهي تشاهد مُقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق -والمعروف اختصارًا بـ"داعش"- وهم مُلثمون ومُدجَّجون بشتى أنواع السلاح!
استوقفتني العبارة طوال الليل، مُحاولا أن أجد صلة بين التشبيه الصادر عن براءة الطفولة، وبين المسلك الفعلي لهذا التنظيم، الذي يسعى لغسل أدمغة هؤلاء الشباب؛ فيحوِّلهم إلى دُمى لا تفكر، ولا تُدرك إلا في حدود دائرة عمياء.. هويَّتهم التطرف، وأفكارهم مُستقاة من نبع أحادي لا يرى في الآخر سوى كافر يتوجَّب قتله؛ حتى وإن شاركه النطق بالشهادتين، أو يمَّم وجهه شطر المسجد الحرام في اليوم خمس مرات!
فكرٌ يرى في نفسه صوتَ الحقيقة المُطلقة، ويلغي الآخر، بل ويحاول إدانته، وممارسة أقصى درجات الإقصاء بحقه وهو القتل.
إنه الفكر التكفيري الذي تشكَّلت بداياته على يد ابن تيمية، والذي يُعد المرجع الأساسي لجميع الحركات الدينيَّة المُتطرفة، كما يستقي هذا الفكر جوانب من تشدُّده من بعض كتابات سيد قطب، وكتاب "الرسائل" لجهيمان العتيبي، وكتاب "المصطلحات الأربعة" للمودودي، وكتابات أبو محمد المقدسي الأردني؛ وغيرها من كتابات تكفيرية. وما يجمعها فقط اعتمادها على صورة أحاديَّة ثابتة تفترض امتلاك الحقيقة المُطلقة، التي لا يأتيها الباطلُ من بين يديها ولا من خلفها، ولا يطالها الشك، وتتعالى على النقد، بل تذهب إلى أبعد من ذلك، بترغيب مُعتنقي هذا الفكر على القتل، وتفجير أنفسهم بغيَّة الحصول على صكوك الغفران!
وقد بلغ بهم التطرف إلى حد تكفير مُجتمعات بأسرها، ووصمها بالجاهليَّة، وإلغاء حاضرها وإنسانها؛ فهم لا يتورَّعون عن إباحة دم المجتمع والدولة؛ باعتبارها كافرة.
والشاهدُ أنَّ تلك التنظيمات -وإن اختلفت في درجة حدة تطرفها- إلا أنها تنضوي جميعًا تحت لواء ما اصطُلح عليه بـ"الإسلام السياسي"؛ حيث يُحاول كل فصيل منها أن يصوِّر لنا أنه هو -دون غيره- الحارس الأمين لقيم هذا الدين الحنيف ومبادئه، في الوقت الذي لا تتعدَّى فيه أهدافه الوصول إلى السلطة لتحقيق مرامٍ لا علاقة لها بالإسلام الحقيقي الذي يحضُّ على التسامح وقبول الآخر.
ويتناسى أولئك التكفيريون أن إسلامنا الحنيف هو دين التعايش المُشترك، الذي يرى في الاختلاف رحمة، وهذا مناطُ قبول الآخرين للإسلام منذ بدايات انتشاره الأولى.
ولا يُمكن نسف هذا التراث الحضاري في التعدُّدية والاعتراف بالآخر وفتح باب الاجتهاد بقنابل التعصب والتكفير (الأعمى) والعنصريَّة، والتي لا تفرِّق بين طفل بريء أو امرأة ضعيفة أو شيخ طاعن في السن.
... يحاول هؤلاء التكفيريون امتطاءَ صهوة جواد "الإسلام السياسي"، وعينُهم على السلطة، لا يلقون بالاً لسيادة قيم الحق، أو إرساء مفاهيم العدل والمساواة، ولا يكترثون لضحاياهم أو يحسبون حسابًا لغيرهم.. وقد تسبَّب هذا التوظيف السلبي لمبادئ الدين في تفرقة الأمَّة إلى طوائف متناحرة؛ مما قعد بها في مؤخرة السباق الحضاري للأمم؛ رغم كثرتها الغالبة التي يفوق تعدادها المليار نسمة، ورغم لا محدوديَّة مواردها وثرواتها التي أصبحت نهبًا لكل طامع.
.. إنَّ الزجَّ بالدين في مُعترك السياسة، ينال مُنهما معا؛ فلا السياسة بقادرة على القيام بمهامها في ظل الدولة الدينية، ولا الدين بمنأى عن السهام التي تنال من قدسيته تحت مظلة هكذا دولة. فنورانية الدين تكمن في العبادات والعقيدة والأخلاق. أمّا الدولة، فهي معنية بإدارة الشأن العام من مُنطلق الكفاءة. لذا فالخلط بين الاثنين يُسيء لكليهما.
وتبعًا لذلك، فمن المؤسف أن تتحوَّل العديد من بلداننا، إلى ساحات مفتوحة للاقتتال والعنف؛ بتأثير من هؤلاء التكفيريين الذي أشعلوا نيران الفتن التي أتت على الأخضر واليابس، دون إدراك منهم لما تصنعه أيديهم من خراب.
تنظيمات مُتطرفة تنتشر على امتداد عالمنا العربي والإسلامي، تختلف في مُسمياتها، ولكن تلتقي جميعها في فكرها التكفيري؛ فهناك: "داعش"، وجبهة النصرة، وأنصار الشريعة، وبوكو حرام...وغيرها من تسميات، تتمدد بأذرعة إخطبوطية في المناطق المُلتهبة، وبُؤر الاشتعال في العراق وسوريا ولبنان ومصر وليبيا.
كما تعشِّعش تلك التنظيمات في شبكات التواصل الاجتماعي؛ لتصطاد ضحاياها بخطاب عاطفي يستهدف إلهاب جذوة الحماس لدى الشباب. والمتأمل لهذا الخطاب يجد أنه لا يستند إلى شيء من جوهر الإسلام، بل يقوم على نصوص تستخدم في سياقات مجزوءة؛ وباستغلال غير أخلاقي للعاطفة الدينيَّة بهدف غواية العامة وتجنيدهم لتنفيذ مخططات استئصالية.
ودونكم المشاهد الدمويَّة المُرعبة التي ترتكبها تلك التنظيمات المُنحرفة؛ والتي تتسمَّى بـ"الاسلام" وهو منها براء.. تابعنا جميعا تمثيلهم بجُثث القتلى من مُخالفيهم، وقطع رؤوسهم وبقر بطونهم. ولن تفارق مخيلتي ما حييت منظر ذلك المُتطرف وهو ينتزع أحشاء مُقاتل سقط في إحدى المعارك بسوريا، مشهد لا يمتُّ للدين ولا الإنسانية بصلة، وصورة تقشعر لها الأبدان، وتتفوق في بشاعتها على أفلام الرعب الأمريكية.
.. إنَّ مثل هذه المشاهد أقرب إلى حُروب الجاهلية الأولى كحرب "داحس والغبراء"، و"البسوس"، وحرب "الفجار"..وغيرها. حروبٌ عبثية تقضي على كل شيء، ولا تفضي إلى أي شيء؛ فها هي اليوم تدمِّر الأوطان عبر القتل على الهويَّة.
فهذه "داعش" تتمدَّد من العراق إلى سوريا؛ لتخوض قتالاً ضد الجميع؛ فهي تقاتل الجيش الحر في حربٍ عبثية تعكس الفوضى والوحشية في التدمير الذاتي للأوطان؛ إذ لا وزن للأوطان في أدبيات تلك التنظيمات المتشددة.
وليست التنظيرات الفكرية لأرباب التشدد هي المسؤولة وحدها عن بروز تلك التنظيمات التكفيرية؛ حيث إن الممارسات الميكافيلية من بعض الحكام العرب قد ساهمت في اشتداد شوكتها؛ لتخرج من طور الكمون إلى حيِّز العلن مُعلنة عن نفسها بصورة عنيفة عبر سيناريوهات الدم!
ومن سخرية الأقدار أنَّ من أطلق المارد من قمقمه، دفع حياته ثمناً لهذه الخطوة، وهو الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، الذي عمد في أوائل سبعينيات القرن الماضي إلى دعم التيار الإسلامي المُتطرف؛ ليكون ترياقاً للمد الناصري، إلا أن السحر انقلب على الساحر في حادث المنصة الشهير؛ حيث اغتال المتطرفون السادات أمام عدسات المصورين.
والأمثلة على الاستقواء بالتيار المُتطرف لا تقتصر على السادات، بل لجأ إليها العديد من الحكام العرب؛ مما أدخل المنطقة في نفق صراعات، يقف في أحد مخارجه أنصار التيار التكفيري بفكر استئصالي، يُقابله في الطرف الآخر قمع السلطات الحاكمة لهذه التنظيمات بعد أن استشعرت منها تهديدًا لكراسيها.
وحتى تتقي الأنظمة الحاكمة شرور تلك التنظيمات، بعد أن شبَّت عن الطوق، مارست معها سياسية "الترانسفير" بفتح باب الجهاد في أفغانستان -بنهاية السبعينيات- بدعاوى التصدي لخطر الشيوعية في جبال أفغانستان البعيدة؛ بدعم من السعودية، وبإسناد من الولايات المتحدة حينها، إبان الحرب الباردة. فتوجه الشباب العربي والمسلم إلى تلك البقاع البعيدة ليجدوا أنفسهم في مُعترك لا ناقة لهم فيه ولا جمل؛ فتقطعت بهم السُّبل، ليتلقفهم دهاقنة التيار الجهادي من أمثال أسامة بن لادن والظواهري، وعبد الله عزام الذي ترك بلاده فلسطين الرازحة تحت الاحتلال الإسرائيلي ليُجاهد في جبال تورا بورا بأفغانستان، ومع انتهاء الحرب الباردة، وانسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان، توقف الدعم عن الجهاديين ليكتشفوا حينها حجم الخديعة والاستغفال الذي مُورس بحقهم من قبل أمريكا؛ حيث إنه وما إن بدأوا في العودة لأوطانهم وجدوا أن المخابرات الأمريكية قد سبقتهم بقوائم مُتضمنة أسماءهم ليتم اعتقالهم في مطارات الوصول؛ ليعودوا بعدها قنابل موقوتة.
وفي تناولنا لشأن التنظيمات المتشددة، لا يمكن إغفال الدور الاستخباراتي الخارجي لتقويتها، واستخدامها كأداة في صراعها ضد الدول التي توجد فيها تلك التنظيمات، أو كـ"بيادق" في حروب بالوكالة التي تتبع النموذج اللبناني القائم على الطائفية وتصفية الحسابات الإقليمية. ولا يخفى أن هناك تواطؤا غربيًّا واستعماريًّا يعمل على إذكاء الطائفية والتطرف بشكل سري -ومن خلف الكواليس- لإشعال الفتن الطائفية، وإثارة نعرة الأقليات والقوميات ضمن سياسات مدروسة بعناية فائقة في مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية الغربية، والمرتبطة بالوكالات الاستخباراتية.
وإلى بغداد، حيث يقفُ العراق شاهدًا حيًّا على نجاح الاحتلال الأمريكي في إنعاش الفكر الطائفي؛ ليخرج المُحتل وقد ترك بلاد الرافدين نهبًا -بفعل الاقتتال الطائفي- على شفا مُخطط تقسيمي على أسس طائفية محضة، وهي خطة مكشوفة لإعادة هذا البلد -الذي كان في عِداد الدول القوية بجيشها وعتادها- إلى العصر الحجري كما قال جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي إبان "غزو العراق"؛ لتبقى إسرائيل المُستفيد الأوحد من خلال إضعاف الوطن العربي عبر تغذية النعرات الطائفية، وإذكاء جذوة التطرف والتكفير.
ولنا أن نتساءل: إذا كانت الصورة بهذا الوضوح؛ فلماذا هذا الإصرار من قبل مُعتنقي تلك الأفكار الظلامية على خلق ونشر ودعم تلك الهويِّات العمياء والأحادية الإقصائية؟ ولماذا لا نتعلم الدروس من حضارتنا العظيمة وقدرتها على التعايش الخلاق، والذي أوصل الأمة إلى قمة التوهُّج الحضاري، وكان له الأثر العظيم على الحضارة الإنسانية جمعاء؟