ترتكز فكرة الصوم الأساسيَّة على حقيقة أن كلَّ إنسانٍ يستطيع أن يغيِّر سلوكه نحو الأفضل؛ لذا نجدُ أنَّ هذه العبادة ليست مُرتبطة بالمسلمين فحسب، بل هي شريعة الله في الأسلاف كذلك؛ مصداقًا لقوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
و"التقوى" في هذه الآية هي الهدفُ من الصيام، ولا يظفرُ الإنسانُ بهذا الهدفِ إلا بتغيير سلوكه إيجابًا، والتخلص من عاداته السلبيَّة التي تحول دون بلوغه هذا الهدف السامي.
والمتأملُ في فريَّضة الصيام يجدُ فيها دليلاً على أن خالق البشريَّة -عزَّ وجلَّ- عادلٌ؛ فهو يأمرُ من خلقهم بشيء يستطيعون فعله، وإن كان تغيير السلوك يحتاجُ إلى شيء من الصبر والتحدِّي، وهذه هي طبيعة الدروب التي يسلكها المميَّزون في كل زمان ومكان، لا بد أن تكون صعبة وشاقة.
وبإمعانِ النظر في شهر رمضان، نلاحظ أنَّ هناك رابطاً بين الصيام عن المُفطرات لمدة 30 يومًا، والقاعدة التربويَّة في تغيير السلوك، التي تشير إلى أن المرءَ إذا ما أراد أن يستبدلَ بعاداته أو سلوكيَّاته السلبيَّة أخرى إيجابيَّة؛ فعليه أن يُواظب على السلوك المرغوب اكتسابه لمدة 21 يومًا مُتواصلة حتى يكتسبها، وهي مصداقٌ للحديث النبوي الشهير في تغيير السلوكيَّات: "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم".
... هذا المعنى العميقُ لفريَّضة الصيام يتجاوز الصورة النمطيَّة التي تنطبع في أذهان ملايين المسلمين، والتي تختزل الفريضة في الامتناع عن الطعام والشراب منذ طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ فالغاية السامية والأهداف النبيلة من فرض الصيام على سائر الأمم أبعدُ من ذلك بكثير؛ ولذلك جاء في الحديث النبوي الشريف: "رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلَّا الجوع".. وفيه إشارة إلى ضرورة البحث عن الجوهر وتجاوز الصورة. وإلى هذا المعنى العميق وجَّه العلاَّمة المفكِّر الإسلامي الداعية الكبير أبو الحسن النَّدْوي -رحمه الله- في مقالته الرائعة "بين الصُّورة والحقيقة" في كتابه "إلى الإسلام من جديد"، إلى علاج ناجع للمشكلة التي زاد تفشِّيها في عصرنا الذي طغى فيه التقليد والتعلق بالصور والماديَّات، على حساب المعاني والمقاصد والروحانيَّات.
وقد أحسن حُجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه القيِّم "إحياء علوم الدين"، حين قسَّم الصيام إلى ثلاث درجات: "صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص"؛ فالغاية من الصوم -كما أسلفنا- ليست مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل تتجاوز ذلك إلى كفِّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح.
... إن الإسلام يلفتُ الأنظارَ إلى وجوب الالتفات إلى جوهر العبادة ورُوحها ومقاصدها، وعدم الاقتصار على مجرَّد القيام بهيئتها وصورتها؛ وذلك بإخلاصها لله -عزَّ وجلَّ- وحضور القلب فيها، والحرص على التحقُّق بمعانيها، وتحقيق أهدافها ومقاصدها، فبعض الصائمين يَحْسبون أنفسهم أنَّهم يصومون، وفي الحقيقة هم يُتعبون أنفسهم بالجوع والعطَش، ويفوتهم الثواب، ولا يستفيدون من مقاصد الصيام؛ إمَّا لأنهم يخلطون طاعتهم بالآثام التي تفوِّت ثواب العبادة، فلا يستفيدون منها، وإمَّا لأنهم لا يؤدُّونها على وجهها الصحيح، بل يفعلونها متابعة وتقليدًا، فتُؤدَّى منهم صورةً، ولا يعيشونها حقيقة.
والفهم العميقٌ لفلسفة الصيام وفلسفة رمضان، يدعونا لإحياء معنى الصيام الحقيقي الذي لا يتوقف عند حدود الامتناع عن أكل أو شرب أو جماع، ولكنه يتعدَّى ذلك ليصل إلى أعمق نقطة في القلب؛ فيغرس فيها التقوى والخشية وحب الطاعة وكره المعصية، حتى يمضي الشهر وقد أنتج بالفعل نفوسًا تعيشُ حياتها بالتقوى، فلا يقهرُها شيطانٌ، ولا يتسلط عليها عدوٌّ، بل ترجح مصالحها العليا، وتسمو فوق أطماع البشر وأهوائهم؛ لتُخرج لنا مُنتجًا نفخر به ويفخر به العالم من حولنا، وتتوجه إليه الأنظار بعد أن غضَّت طرفها عن قيمه ومُثله العليا، ولمَ لا؟ والصوم تربية للإرادة وجهادٌ للنفس، وتعويدٌ على الصبر.
... إن العبادات تغرسُ في النفس حبَّ العمل والإنتاج، ولا عجب أن نجد أن الله -سبحانه وتعالي- قرن بين الصلاة والسعي في الأرض؛ بقوله: "فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله"، وكذلك قرن الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- بين الصوم والعمل؛ بقوله: "وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"، ورفض -صلى الله عليه وسلم- جعل الصوم تكأة وحُجة لترك العمل, والتعلل به، وجعله سبيلًا للعَنت والمشقة, لكنَّ بعض المسلمين هم الذين حوَّلوا هذا الشهر إلى شهر كسل وتراخٍ بما يسهرونه من الليل وينامونه من النهار، ولو أنهم صاموا حق الصيام، وتحرَّوا الوصول إلى مقاصد الصيام العظيمة لتحقق للأمة في هذا الشهر من الكفاية الإنتاجيَّة ما يكفيها باقي السنة.
وتاريخُ المسلمين الطويل شاهدٌ على أنَّ هذا الشهر هو شهرُ الإنتاج والعمل، وشهرُ الانتصارات الكبرى، حين تهب رياح الإيمان، ونسمات التقوى.
ومن غير المقبول أن يُقصِّر العامل أو الموظف في أداء مهامه الوظيفيَّة تحت زعم الصيام والتعب والإجهاد، ومن غير المقبول أن يتسرَّب الموظف من مكتبه أو موقع عمله وهو صائم تحت زعم مشقة الصيام؛ فالمراقبة لله -التي هي أساس العبادات في الإسلام- تقتضي من كلِّ مسلم أن يُؤدى ما عليه من واجبات؛ إذ كيف يصوم عن "الطعام والشراب"، ولا يُراقب الله في عمله، وما كُلف به نظير ما يتقاضاه من أجر نهاية الشهر؟!!
... إنه لمن المؤسف بحق أن يتقاعس البعض في شهر رمضان عن العمل بحجة الصيام، ويرون شهر رمضان الكريم مدعاةً للتراخي والتكاسل؛ بينما يراه البعض شهر الاعتكاف والعبادة والانصراف عن أمور الدنيا، لكن التاريخ الإسلامي بصفحاته المضيئة يمحو هذه الصورة من الأذهان تماماً بـ"الفعل" لا بـ"القول"؛ فمعظم الفتوحات الإسلاميَّة العظيمة والأحداث الجسيمة، التي شكلت وجه التاريخ والحضارة الإسلاميَّة وقعت في رمضان، وقام بها المسلمون البواسل وهم صائمون؛ فالصوم لم يكن عائقاً يحول دون النَّصر والتقدُّم وتحقيق الإنجازات، بل هو خيرُ معين على ذلك، وهو خيرُ مولد للعزيمة والإصرار.