د. إبراهيم بن محمد العامري
أسدل الستار على فعاليات ندوة إزكي عبر التاريخ الثالثة "حارات إزكي القديمة ... تاريخها وسُبل استثمارها" التي عقدت يومي 24 و25 نوفمبر 2025، واستضاف متحف عُمان عبر الزمان برنامج فعالياتها تزامنا مع انطلاق الملتقى الثقافي في نسخته الرابعة وهنا أجد سانحة للتوقف مع تفاصيل التوصيات بهدف محاولة استجلاء بعض المضامين التي يُؤمل منها حث الجهات المختصة وأصحاب الشأن للقيام بمسؤولياتهم تجاه ما خرج به المشاركين في الندوة.
لا جدال في أن حارات إزكي القديمة بما تحويه من إرث حضاري تمثل أحد أهم الشواهد الحيَّة على العمق التاريخي والحضاري لسلطنة عُمان، فهي ليست مجرد مبانٍ طينية أو طرق ضيقة، بل ذاكرة جماعية تختزن قصصًا وأساطير وممارسات اجتماعية امتدت عبر قرون من الإنجازات التي هي اليوم شواهد حية على قدرة الإنسان العُماني على التفاعل مع هذا الإرث الحضاري.
لقد جاءت هذه الندوة لتمنح هذا الإرث الوطني فرصة جديدة للظهور إلى الواجهة في إطار مجموعة واسعة من التوصيات الدقيقة والمتكاملة التي جسدت نجاح الأهداف التي اعتمدتها اللجنة المنظمة للندوة، والتي لو نُفذت بالشكل الصحيح سوف تسهم في تحويل هذه الحارات المستهدفة في الدراسة إلى رافد حضاري وسياحي واقتصادي، غير أنَّ السؤال الجوهري الذي يبقى ملحا، هل ستتمكن الجهات المختصة من ترجمة هذه التوصيات إلى واقع ميداني وتحويله لمشروع استراتيجي وطني؟ أم ستبقى نتائج ومخرجات هذه الندوة كما حدث لمثيلاتها حبيسة تقارير وملفات وأوراق علمية لا تجد طريقها إلى التنفيذ؟ رغم وضوحها وتكامل عناصر وحدتها.
ومع ذلك تبقى الحاجة اليوم إلى وقفة جادة تدعمها الإرادة ورغبة التنفيذ وهو ما طالب به كل الباحثين والمشاركين في الندوة بالإضافة إلى الفعاليات الإعلامية والمهتمين بالشأن التاريخي الذين تابعوا المناقشات والمداخلات التي شهدتها جلساتها الأربع، فكان نتاج هذا الجهد أن توصلت الندوة إلى 22 توصية، شكّلت خارطة طريق متكاملة بدءًا بالترميم والصيانة، مرورًا بالاستثمار والسياحة، ووصولًا إلى الرقمنة وأهمية البحث الأكاديمي، وكذا الاستفادة من أحداث الماضي في تطوير المستقبل وتنمية الجوانب الإيجابية في الشخصية العُمانية وربطها بالقيم الإنسانية التي حثَّ عليها الدين الحنيف.
قيمة هذه التوصيات لا تكمن فقط في جودت صياغتها، بل في مدى قدرة الجهات المعنية على تحويلها إلى مشاريع حقيقية، وهنا يكمن التحدي، فعلى الرغم من إدراك الجميع لأهمية الحارات القديمة وقيمتها في التاريخ العمراني وهندسة البناء، إلا أننا نلاحظ غيابًا في المبادرات الفعلية التي تُترجم هذا النتائج، فكم من مبنى تراثي تم توثيقه، وكم من حارة جرى تأهيلها بما يليق وأهميتها التاريخية، وكم من مشروع اقتصادي محلي أتيح استغلاله من قبل أبناء هذه الولاية ليجعلوا من هذا التراث مصدرًا للدخل.
أسئلة تعكس مدى الفجوة الواضحة بين التوصيات العلمية وبين الممارسة الميدانية، وهو ما سوف يزيد من مسؤولية الجهات الرسمية عند محاولة معالجة القصور ووضع خطة واضحة المعالم بحيث تستجيب لنتائج هذه الدراسات البحثية وتفاعلها بجدية التنفيذ، مع أهمية البدء لوضع برامج ترميم لتلك الحارات القديمة التي كانت محور الدراسة كخطوة أولى.
ومع إيماننا بوجود نسبة من التفاؤل إلا أن الواقع للأسف يشير إلى بطء شديد في عمليات الصيانة والترميم، والسبب غالبًا لا يعود إلى نقص المعرفة بقدر توفر الدعم المادي، فقد أصبحت المعلومات متاحة؛ بل يعود ذلك إلى بطء الإجراءات الإدارية وعدم وضوح الألية التي سوف تعتمدها هذه الجهات في تخصيص الموارد المالية لقطاع الترميم والصيانة، لكن لا يعني التسليم بعدم البدء بمراجعة دقيقة واتخاذ قرار جريء تتعاون في إطاره وزارة التراث والسياحة بالتنسيق مع محافظة الداخلية والإدارات التابعة لها لأن تضع خطة زمنية دقيقة تستهدف برنامج الترميم ولو على مراحل زمنية تحظى بها تلك الحارات كنموذج أولي يجسد تطلعات المجتمع ويعزز جهود المحافظة على هذا الإرث الحضاري والتفاؤل الذي خرج به المشاركين على المستوى وطني.
يضاف إلى ما تقدم يمكن العمل على إيجاد صيغة مبادرات كانت غائبة رغم وضوح الحاجة إليها للتوافق على خطة للتمويل المالي بالشراكة مع القطاع الخاص وهذا خيار يعد من أهم مخرجات ونتائج بحوث الندوة؛ لأنها تضمن الاستدامة المالية لأي مشروع تراثي وشراكة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، لكن حتى الآن وإن توافقنا على هذا الاجراء فليس هناك رؤية تتكامل معها مثل هذه المبادرات الجادة أو المعلنة؛ وهو ما يضع الجهات الرسمية أمام سؤال نقدي مباشر: لماذا لا يتم تحريك وحث القطاع الخاص ليكون شريكا فاعلا؟ كذلك لماذا لا تُطرح مشاريع استثمارية منظمة تخصص لقطاع التراث والسياحة؟
هنا يستوجب منا الإشادة بالمبادرات التي قامت بها مشكورة بعض الشركات الأهلية وأصبحت اليوم يشار إلى نجاحها بالبنان وهو ما يؤكد نجاح السياحة التراثية بكونها فرصة مناسبة لتنويع الدخل الحكومي والمجتمعي، بعد إن كانت هذه الحارات في الماضي مهدرة وبعيدة عن أية حسابات تسهم في النشاط الاقتصادي لبعض هذه الولايات، وبناء على هذا الاستنتاج يمكن الاستفادة من مخرجات الندوة للتركيز على ولاية إزكي التي تقع ضمن أهم المسارات السياحية في محافظة الداخلية وعمقها التاريخي وما تحويه من معطيات مادية تتمثل في القلاع والحصون والأبراج والأسواق والقري التي يمتد تاريخ بنائها إلى ما قبل الإسلام، إلا أن إدراجها فعليًا في برامج شركات السياحة لا يزال محدودًا.
وعطفًا على ذلك فإن تأهيل وتحسين هذه المرافق، وإعداد مركز معلومات تفصيلية عن تلك المواقع، وتوفير بنك معلومات لحصر كل التفاصيل التي يمكن البناء عليها ليست مشاريع ضخمة تتطلب تمويل مادي خارج حدود الامكانيات، بل هي مشاريع بسيطة قابلة للتنفيذ الفوري، لكنها لا تزال غائبة مع غياب القرار.
يبقى أن نشير إلى أهمية الوعي المجتمعي التي تبدو ملحة للغاية رغم ما تواجهه من صعوبة في تكامل الجهود التي لا تزال مشتتة وغير منظمة وتحتاج إلى تكامل وتظافر الجهود ومساندة اللجان ودعمها إداريا وماليا، ومثال ذلك يمكن للفرق الأهلية والمؤسسات الاكاديمية والمدارس ومركز إزكي الثقافي أن يعملوا ضمن خطة مشتركة تنضوي تحت مسؤولية الجهات المعنية، مع الاعتراف بأن الواقع يفتقد هذا التنسيق في الوقت الراهن لكننا نؤمل أن يتحقق ذلك في أقرب فرصة ممكنة.
إذا كانت الندوة قد أدت دورها العلمي والمعرفي وحركت شجون المهتمين والمتابعين لشأن التراث التاريخ العُماني، فإن الدور الآن يقع بوضوح على الجهات المختصة، وفي مقدمتها وزارة التراث والسياحة، ومكتب محافظ الداخلية، والادارات الأخرى ذات العلاقة إلى جانب القطاع الخاص، مع تفاعل المجتمع المحلي من أجل تسريع وتيرة الاستفادة من هذه التوصيات وفي مقدمة ذلك وضع خطة تنفيذية واضحة لتحويل التوصيات إلى برنامج عمل يمتد على ثلاث مراحل قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، مع تحديد المسؤوليات بدقة على أن ترتبط هذه الخطة بمعالجة تبتعد عن البيروقراطية وازدواجية التراخيص وموافقات الترميم حتى يمكن تحويل هذا التراث إلى اقتصاد يتمثل في مشاريع فورية منخفضة التكلفة وربطها بقياس الأداء ومراجعة التقدم وتشكيل لجنة متابعة لمراقبة تنفيذ التوصيات سنويًا، وتحديد نسب الإنجاز، ومعالجة القصور والحد من تأثير المعوقات التحديات المتوقعة التي قد تواجه هذا العمل الوطني.
من وجهة نظري أقول إن إبقاء هذه التوصيات دون معالجة فورية لا يخدم تاريخ ولاية إزكي، وهذا ينسحب على الولايات الأخرى بالمحافظة ولا يسهم في تطوير حاضرها الطموح حيث الواقع يؤكد أن الحارات القديمة تزداد تدهورًا وتحديا بيئيا عامًا بعد عام، ما يجعلها مهددة بالاندثار في غياب جهد رسمي ومجتمعي سريع وحاسم.
لذا فإن مسؤولية البدء في صيانة هذا التراث لا يمكن أن تؤجل، ولا يمكن التذرع بنقص الإمكانات، فالكثير من التوصيات قابلة للتطبيق بميزانيات بسيطة، ما دامت الإرادة موجودة.
إن الجهات المختصة مطالبة اليوم- قبل الغد- أن تثبت جديّتها في حفظ ذاكرة هذه الولاية التاريخية، وأن تثبت أن الندوات ليست مجرد فعاليات احتفالية، بل مدخل لتغيير حقيقي يُخرج التراث من دائرة الخطابات إلى دائرة العمل والإنجاز حتى نستطيع أن نحوَّل كل الطموحات إلى مشاريع واقعية ذات قيمة حقيقية تظهر الأثر الذي يلمسه المواطن والزائر وأبناء الجيل القادم.
وهنا مطالبة جدية بأن تنهض الجهات المختصة بدورها، وأن تجعل من هذه التوصيات قوة دفع لتعزيز الهوية، وتنشيط السياحة، وبناء اقتصاد محلي متين يقوم على مكنونات هذا التراث واستثماره في سياق المسؤولية الوطنية.
