متى يتحول الإعلام إلى قوة ناعمة؟

 

 

 

د. خميس المقيمي

تمتلك سلطنة عُمان رصيدًا استثنائيًا من المَعانِي والرموز تشكّل عبر قرون من التَّفاعل مع موقعها الإستراتيجي المُهم على خارطة العَالم؛ فالبحر، والتجارة، والعلم، والتَّديّن المتزن، والاختلاف المقبول، والعيش في بيئات متباينة من الجبل إلى الوادي والسهل والصحراء والسَّاحل، كلها أدوات مكّنت عُمان من أن تكون نسيجًا فريدًا من نوعه. غير أنَّ السؤال الذي يفرض نفسه اليوم لا يتعلَّق بما نملكه، بقدر ما يتعلق بما حوّله الإعلام فعليًا من هذا الرصيد إلى معنى حيّ في الوعي العَام.

والإعلام، حين يُفترض به أن يكون صانعًا للهُوِيَّة، يكون دوره أعمق من عرض التراث بوصفه محتوى جمالياً، أو التذكير بالشخصيات التاريخية في مُناسبات عابرة. دوره أن يُعيد تقديم هذه العناصر بوصفها جزءًا من الحاضر، لا بقايا من الماضي؛ أن يحوّل التاريخ، والجمال البيئي، والنسيج المُجتمعي، والفرص الكامنة في خيرات الأرض والبحر، إلى قصة مفهومة للأجيال الجديدة، وأن يجعل القيم الثقافية والدينية والفلكلورية قابلة للتمثّل في الحياة اليومية، لا رموزًا موسمية تُستدعى عند الحاجة.

لدينا شخصيات عُمانية أثّرت في التاريخ العربي والإسلامي، وأسهمت في العلم، والفكر، والتِّجارة، والدبلوماسية. ولدينا موروث غني في الثقافة والفنون والموسيقى واللغة والحِرف، والبحر، والزراعة، والعمران. غير أنَّ التحدي الحقيقي يبقى فيما إذا استطاع إعلامنا تقديم هذه الثروة للمجتمع الداخلي أولًا بوصفها جزءًا من هويته الحيَّة، قبل أن يوجّهها إلى الخارج بوصفها بطاقة تعريف سياحية أو ثقافية أو اقتصادية لعُمان.

تظهر الفجوة بوضوح حين ننظر إلى علاقة الأجيال الجديدة بتراث الآباء. فالتراث الَّذي لا يُقدَّم بلغة معاصرة، ولا يُربط بفرص الحياة والعمل والنجاح، يتحوَّل في وعي الشباب إلى شيء جميل، لكنه قديم أو بعيد التفسير. فهل استطاع الإعلام أن يجعل البحر حلمًا مهنيًا؟ وهل استطاع أن يجعل الموروث فضاءً للإبداع، أو الصحراء مجالًا للاكتشاف، أو الحِرفة مشروعًا اقتصاديًا مُعاصرًا؟ فالواقع أن الإعلام لم ينجح بعد في بناء هذا الربط بصورة منهجية ومستدامة، رغم توفر المقومات الثقافية والاقتصادية لذلك.

هناك تجارب محلية أثبتت أنَّ الأمر ليس مُستحيلًا؛ فإعادة إحياء حارة العقر في نزوى، بمشاركة الأهالي، حوّلت المكان من مساحة مهملة إلى نقطة جذب ثقافي وسياحي، ورفعت القيمة الاقتصادية للأرض والبيئة المحيطة بها. غير أن الإعلام، في كثير من الأحيان، يكتفي بتغطية النتيجة، لا بصناعة السرد، ولا بمرافقة التحوّل بوصفه نموذجًا قابلًا للتكرار.

يبرُز هذا القصور بوضوح حين نسأل: هل استطاع الإعلام العُماني أن يتحول إلى قوة ناعمة من خلال تبنّي منهجي لمكونات الإنسان العُماني؟ يتجلّى ذلك على سبيل المثال عند النظر إلى الرياضة بوصفها إحدى أكثر المساحات التي تعكس روح المجتمع العُماني خارج القوالب الرسمية. فحب كرة القدم ممارسة يومية حاضرة في الشواطئ والساحات والأحياء والقرى، حيث تتقاطع الأجيال عصر كل يوم حول كرة واحدة، في مشهد يتكرر منذ عقود. هذا الحراك الشعبي العفوي منح عُمان، في الذاكرة الرياضية الخليجية، توصيف "سامبا الخليج"، في إشارة إلى غزارة المواهب وتدفّق الشغف من القاعدة إلى القمة.

غير أنَّ هذا الزخم المجتمعي لم يجد حتى اليوم عملًا مؤسسيًا موازيًا يستثمره بوصفه مكوّنًا من مكونات الهُوِيَّة، لا مادة تحليلية مرتبطة بمباريات المنتخب أو مناسبات رياضية عابرة. فالقناة الرياضية انشغلت غالبًا بنقل المباريات وتحليلها، ولم تهتم بالبعد الثقافي والاجتماعي للرياضة بوصفها لغة مشتركة بين الناس. الأمر ذاته ينسحب على رياضات أخرى آخذة في الاتساع، مثل "الهايكنج"، والرياضات الجبلية والبحرية، التي تحوّلت إلى حراك مجتمعي حقيقي، من دون أن تتحول إلى سردية إعلامية تعرّف بها، وتربطها بالبيئة والصحة والسياحة وأنماط العيش المعاصرة.

وفي مجال الدراما والفنون أيضًا، هل مُنِحت المساحة الكافية للمسلسل العُماني ليكون مرآة حقيقية للنسيج المجتمعي بتنوعه وتفاصيله؟ الإنتاج غالبًا موسمي، مرتبط برمضان أو المناسبات الوطنية، من دون رؤية طويلة المدى لصناعة درامية مستدامة. الكوميديا كذلك، هل تحولت إلى أداة تنافس خليجيًا وعربيًا؟ رغم وجود كفاءات أصيلة من أجيال قديمة وحديثة وفي كافة ربوع عمان. والأغنية العُمانية، لماذا بقيت في دائرة المناسبات الوطنية أو مهرجانات الأغنية، لا في دائرة التعبير العميق الذي يلامس الوجدان اليومي؟ وهل استُثمر الإعلام في خلق نجومية حقيقية تعبّر عن الشخصية العُمانية وتقدّمها بثقة وذكاء؟

السؤال عن النجومية هنا ليس سؤال شهرة؛ بل سؤال تمثيل. هل استطاع الإعلام أن يصنع نجومًا حقيقيين خارج إطار "المذيعين"؟ هل لدينا فنان، أو مُفكِّر، أو صانع محتوى، أو مُبدع، يحمل السِّمت العُماني ونقدّمه للعالم بوصفه نموذجًا معاصرًا؟ غياب هذه النماذج يمنح الفرصة لبروز نماذج موازية في منصات التواصل تستفيد من وجود هذا الفراغ الذي لا يعكس غياب الكفاءات، بقدر ما يعكس غياب مشروع إعلامي متكامل يتبنّاها، ويصقلها، ويمنحها المساحة والاستمرارية. وهو ما ينسحب كذلك على الشعراء والروائيين والمثقفين العُمانيين الذين حاز عدد منهم جوائز ثقافية مرموقة دوليًا، قابلها احتفاء رسمي من الدولة، من دون أن يُترجم هذا التقدير إلى حضور إعلامي مستدام يصنع لهم موقعهم الطبيعي في الوعي العام.

هنا يظل السؤال قائمًا حول الفاعلية والدور للقنوات التلفزيونية والإذاعية والصحف أو منصاتها الرسمية في الفضاءات الإلكترونية. فالحضور الزمني وحده لا يكفي. المطلوب مشروع تحريري واضح يحدد وظيفة كل قناة في تشكيل الصورة العامة للدولة، ويصنع أثرًا طويل الأمد في العلاقة مع الجمهور. وهو ما يقود بطبيعته إلى ضرورة الانتقال بالإعلام العماني إلى دور محوري فاعل بوصفه خيارًا استراتيجيًا.

في جوهر الأمر، لا تكمن المشكلة في نقص المحتوى؛ بل في غياب الرؤية الاستثمارية للهُوِيَّة. فالإعلام لم يتعامل بعد مع السِّمت العُماني- على سبيل المثال- بوصفه رأس مال ثقافي يمكن البناء عليه وتطويره وتقديمه للعالم بلغة اليوم. وبقي الخطاب في كثير من الأحيان أسير التوثيق أو الاحتفاء أو التغطية، من دون أن يتحول إلى صناعة متكاملة للمعنى والرمز والقدوة. فالهُوِيَّة التي لا تُستثمر تتحول إلى ذاكرة، والذاكرة وحدها لا تبني مستقبلًا. والإعلام، عندما ينتبه لهذه الحقيقة ويتبناها، سيصبح قادرًا على تحويل الإرث إلى فرصة، والتراث إلى مشروع، والسِّمت العُماني إلى قوة ناعمة حقيقية، تبدأ من الداخل قبل أن تُصدَّر إلى الخارج.

هنا لا يعود السؤال عن الهُوِيَّة الوطنية سؤال محتوى أو برامج؛ فالانتقال من منطق التغطية إلى منطق الاستثمار في الهُوِيَّة ضرورة تنموية تمس صورة الدولة ومستقبلها.

في المقال المقبل، وهو الأخير في السلسلة، ستكون محاولة هادئة لقراءة ماذا لو تمت إعادة هيكلة الإعلام ليقود السرد العام؛ بوصفها أحد اختبارات القدرة على ترجمة مستهدفات رؤية "عُمان 2040" في مجال بناء الإنسان، وتعزيز الهُوِيَّة، وصناعة الأثر.

الأكثر قراءة

z