استبقاء العملاء.. من وظيفة إلى ثقافة مؤسسية

 

 

 

أحلام بنت سيف الوهيبية

ahlamsk@icloud.com

 

في عالم المُؤسسات، هناك أوراق كثيرة تُوقَّع كل يوم، لكن هناك قرارات نُعيد كتابتها قبل أن تُطوى.

كان الوقت يقترب من نهاية الدوام حين دخل رجل في مُنتصف العمر، يحمل بيده ملفًا صغيرًا ونظرة حاسمة، تقدّم إلى المكتب بثقةٍ وقال: "أريد أن أنهي خدماتي في هذه المؤسسة، أرغب بالانتقال إلى مُؤسسة أخرى".

طلبت منه الجلوس. ليست المرة الأولى التي أسمع فيها هذه الجملة، لكنها دائمًا تحمل خلفها قصة. تصفحت ملفه، وبدأت أستمع… لم يكن الأمر مُتعلّقًا بأرقام فقط، بل بتجربة، بموقف صغير ترك أثرًا كبيرًا.

"ما الذي جعلك تُقرر الانتقال؟" تنهد وقال: "تأخرت مُعاملة بسيطة… ووجدت اهتمامًا أكبر في مؤسسة أخرى".

كان القرار شبه نهائياً، لكنه جاء يبحث عن ورقة تُغلق فصلًا. وأنا هنا، مهمتي ليست مجرد توقيع أوراق؛ بل فتح أبواب جديدة. استمعت إليه دون مُقاطعة، ثم بدأت أوضح له خيارات لم يسمع بها من قبل، حلول لم تُعرض عليه، عروض مُصممة لراحته، ومتابعة شخصية لتعويض ما فاته.

تبدلت ملامحه تدريجيًا. لم أستخدم أسلوب الإقناع القسري، بل لغة الاهتمام الصادق. فالعميل لا يُغادر المُؤسسة، قبل أن يغادر الشعور بالثقة.

خرج في النهاية وهو يقول: "لن أقدم الطلب. خلونا نبدأ من جديد".

في عالم المُؤسسات، ثقافة الإبقاء على العميل داخل المؤسسة، ومنع انتقاله لمؤسسة أخرى أمر مُهم للغاية؛ فكل عميل يمثل استثمارًا طويل الأمد، ليس فقط من ناحية الأموال التي يُديرها، بل من ناحية الثقة والعلاقة والعلامة التجارية التي تم بناؤها على مر الوقت.

أصبحت المنافسة بين المؤسسات اليوم شديدة، وأصبح فقدان أي عميل يمثل خسارة حقيقية للمؤسسة المالية. وعليها ألا تهتم فقط بجلب عملاء جُدد؛ بل أصبح من الضروري الحفاظ على العميل نفسه وإشعاره بالاهتمام والتقدير. ويُقرر العميل عادة إنهاء علاقته مع المؤسسة لأسباب عدة. وهنا يأتي دور وحدة استبقاء العملاء التي تلعب دورًا مهمًا في تعزيز سمعة المؤسسة والعلامة التجارية واحترام العميل، من خلال الاستماع إليه ومعرفة الأسباب التي دفعته إلى المُغادرة، ثم تحليلها وفهم التحديات هذا التعامل المهني يجعل العميل يشعر بالاهتمام والراحة، وقد يُؤدي في كثير من الأحيان إلى تغيير قراره أو على الأقل خروجه بطريقة إيجابية وراقية. كما أن رضا العميل وسعادته بالخدمة قد يعززان من سمعة المؤسسة ويجلبان عملاء جددا عن طريق التوصية، بينما يُعد فقدان عميل قديم خسارة مؤثرة للمؤسسة.

وأذكر ما قرأته من عالم الأعمال أن "العميل الوفي لا يقاس بعدد مشترياته؛ بل بعدد المرات التي يتحدث فيها عنك لدى الآخرين".

ونحن كبشر نميل إلى الاستقرار والثقة في المؤسسات الخدمية التي نختارها منذ البداية كسبا للوقت وللجهد وسعيًا لبناء شراكة طويلة، وعلى المؤسسات أن تترك أثر ذلك، وتطور باستمرار من جودة خدماتها والسعي لإرضاء زبائنها، وحل مشكلاتهم بشكل مستمر وإشعارهم بأنها تقف إلى جانبهم.

وعلى المؤسسات كذلك ألا تقف فقط عند متابعة الاستبيانات المتعلقة برضا العملاء أو معالجة شكاواهم؛ بل عليها أن تدرك أن استبقاء العملاء رحلة مستمرة من التطوير والابتكار واكتشاف الجديد مع تحسين جودة التواصل، وفهم أعمق لملاحظات العملاء، وعليها أن تسعى إلى التطوير المستمر بدلاً من سؤال العميل عن الأسباب والدوافع التي تدفعه للمغادرة.

وانطلاقاً من المفهوم الاقتصادي "الشمول المالي"؛ فالمؤسسة الناجحة تسعى للحفاظ على عملائها من خلال توسيع قاعدة المستفيدين من خدماتها لتشمل فئات الشباب، ورواد الأعمال، ومؤسسات الأعمال الصغيرة، والأعمال التجارية الفردية، والمنزلية.

وفي عصر التقنية، أصبحت الأدوات التكنلوجية جزءًا أساسيًا من تلك الثقافة، فالذكاء الاصطناعي، وأنظمة تحليل البيانات، وخدمات التفاعل الذكي عبر التطبيقات والمنصات، لم تعد فقط من باب الرفاهية؛ بل ضرورة لخلق تجربة أكثر تفاعلًا ومرونة. واليوم تقوم التقنيات بتمكين المؤسسات من فهم سلوك العملاء، والتنبؤ باحتياجاتهم، وتقديم حلول فورية تُعزّز رضاهم وتعمّق ولاءهم. لذلك، لم يعد الحفاظ على العميل مجرد وظيفة يقوم بها موظف خدمة العملاء عند حدوث مشكلة، بل أصبح جزءًا من ثقافة المؤسسة بأكملها. المؤسسة التي تعتني بتجربة العميل من البداية حتى النهاية، وتستمع له وتحل مشاكله بشكل سريع وفعال، تخلق رابطة قوية لا يستطيع المنافسون كسرها بسهولة.

إنَّ تحويل عملية الاحتفاظ بالعملاء من مهمة مؤقتة إلى قيمة مؤسسية مستمرة يعني أن كل موظف من الإدارة العليا حتى موظف الخدمات، يشارك في خلق بيئة تجعل العميل يشعر بالاهتمام والتميز. وهذه الثقافة لا تُقاس بالأرقام فقط، بل بالثقة والولاء الذي يشعر به العميل في كل تعامل، وفي كل لحظة يقرر فيها أن يبقى ضمن هذه المؤسسة.

وفي نهاية المطاف.. فإنَّ العملاء يحتاجون إلى من يستمع لهم ويقدرهم ولأجل ذلك فعلى المؤسسات أن تدرك أن ولاء عملائها هو أكبر وأفضل استثمار لها، فتضع رضاهم والاحتفاظ بهم ليس مجرد هدف إداري؛ بل استراتيجية لاستدامتها المؤسسية.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z