التسريح والرقابة الحكومية

 

 

 

أنيسة الهوتية

 

الأزمات الاقتصادية أبرزت قيمة التشريعات العمالية ليس كنصوص جامدة؛ بل كإطار أخلاقي وقانوني لحماية التوازن بين مصلحة المؤسسة وكرامة الموظف. ومن هذا المنطلق، فإنَّ قضية تسريح الموظفين حساسة جدا، إذ لم تعد تقتصر على حالات استثنائية ضيقة؛ بل اتسع نطاقها في بعض البيئات ليشمل تسريحًا جماعيًا وفرديًا يثير تساؤلات قانونية وإنسانية تستوجب الوقوف الجاد عندها.

الأصل في القوانين العُمَّالية أنها تقوم على مبدأ الاستقرار الوظيفي، وتَمنح صاحب العمل حق إنهاء الخدمة ضمن ضوابط دقيقة، أبرزها توافر السبب المشروع، وحُسن النية، والتناسب بين الإجراء والظرف القائم؛ فالخسارة الاقتصادية، في المفهوم القانوني، لا تعني مجرد انخفاض الأرباح أو تباطؤ النمو؛ بل تشير إلى عجز حقيقي يُهدد استمرارية النشاط، ويستلزم إثباتًا موضوعيًا واستنفاد جميع البدائل الممكنة قبل المساس بالوظائف.

غير أنَّ الواقع العملي يكشف عن لجوء بعض الإدارات إلى التسريح باعتباره الحل الأسرع، مُستندةً إلى عناوين عامة مثل "إعادة الهيكلة" أو "ظروف داخلية"، دون شفافية في البيانات المقدمة لإثبات حجم الخسارة الفعلية. وتكبُر المصيبة حين تُتخذ هذه القرارات دون تدخل رقابي فاعل، ما يفتح المجال لاستخدام التسريح كأداة إدارية لا كضرورة اقتصادية.

وتتعمق الإشكالية القانونية حين يُترك قرار إنهاء الخدمة بالكامل لإدارة المؤسسة دون مراجعة حكومية، رغم أن حماية المصلحة العامة تقتضي تدخل الجهات المختصة للتحقق من الأسباب قبل تنفيذ القرار. فالتدخل الحكومي المُسبق، القائم على فحص الوضع المالي الحقيقي للمؤسسة، ومراجعة البدائل المطروحة، لا يُعد تعطيلًا لحرية النشاط الاقتصادي؛ بل ضمانة قانونية تحول دون إساءة استعمال الحق وتمنع تحميل الموظف تبعات أزمات لم يكن طرفًا في صنعها.

وهناك زاوية أكثر حدة وحساسية في حالات التسريح الفردي؛ حيث يُستخدم إنهاء الخدمة أحيانًا لتصفية حسابات إدارية أو لإقصاء موظف نشيط يتمتع بالكفاءة والروح القيادية العملية والمهنية الواضحة. وهذا النوع من القرارات، وإنْ اتخذ شكلًا قانونيًا ظاهريًا، يندرج ضمن إساءة استعمال السلطة، ويتعارض مع المبادئ القانونية العامة التي تحظر الفصل التعسفي، المغلف بإطار التسريح للضرورة والمحشو بمكيدة ضد قيادي قادم بقوة!!

ولا يمكن فصل هذه الممارسات عن آثارها الإنسانية؛ فالتسريح المُفاجئ لا يقطع مورد الرزق فحسب؛ بل يزعزع الإحساس بالأمان، ويُخلِّف آثارًا نفسية وصحية تمتد إلى الأسرة والمجتمع. كما يؤدي انتشار الخوف الوظيفي إلى تراجع الإنتاجية، وضعف المبادرة، وهجرة الكفاءات، وهي نتائج تتناقض مع أهداف التنمية وبناء رأس المال البشري.

ومن هنا، فإنَّ الرسالة الموجهة إلى صُنَّاع القرار واضحة؛ وهي أنَّ حماية سوق العمل تتطلب تدخلًا مُبكِّرًا لا لاحقًا، ورقابة استباقية لا علاجية. فمراجعة أسباب التسريح قبل وقوعه، والتحقق من حقيقة الخسائر، وإلزام المؤسسات بإثبات الضرورة القصوى، كلها إجراءات تحفظ التوازن بين استدامة الأعمال وكرامة العامل.

إنَّ القرار العادل اليوم لا يحمي الموظف وحده؛ بل يصون الاستقرار الاجتماعي، ويُعزِّز الثقة في المنظومة القانونية، ويُؤكد أنَّ الإنسان يظل جوهر التنمية وغايتها في كل الظروف.

الأكثر قراءة

z