د. غالية بنت عيسى الزبيدية **
ليس غريبًا أن يُطالَب الإنسان، وهو يفيض حضورًا، بأن يُثبِت وجوده بضغطٍ صغيرٍ على جهازٍ صامت. غريبٌ فقط أن يُختَزل الامتداد في نقطة، وأن تُختصر الرحلة في أثر إصبع.
قالوا: ضعي بصمة حضور وانصراف.
ابتسمتُ، لأنني أدركتُ فجأةً أن بعضهم لا يرى إلا ما يُقاس بالآلة، ولا يعترف إلا بما تُصدّقه الشاشة.
أنا- يا سادتي- لا أضع بصمتي؛ أنا أُثبتها.
أُثبِّتها في القاعات التي تشهد على أسئلتي، وفي المنصات التي تعرف نبرة صوتي، وفي الأوراق التي تحمل اسمي دون أن تطلب إذنًا من جهاز.
بصمتي لا تأتي ولا تنصرف؛ هي مقيمة إقامة دائمة في الوعي الجمعي، لا تحتاج بطاقة ولا توقيعًا.
العجيب في الأمر أن الإبداع، حين يكون كثيفًا، يصبح غير مرئي عند بعض الإدارات. فالثراء الحضوري- كما يبدو- لا يُعترف به ما لم يُترجم إلى صفيرٍ إلكتروني عند الباب.
والمساهمة المجتمعية، مهما بلغت، تظل ناقصة إن لم تمر عبر كابل كهربائي رفيع. كأنَّ الفكر لا قيمة له إن لم يُختَم، وكأن الأثر لا يُحسب إن لم يُسجَّل بالدقيقة والثانية.
أقف في المنتديات الثقافية، أجادل، أضيء، أختلف، أُضيف، أشارك في المؤتمرات، أكتب، أُحاضر، أُناقش، أغرس فكرة هنا، وأوقظ سؤالًا هناك،
ثم يُقال لي ببراءةٍ إدارية:
لكن بصمتك لم تُسجَّل اليوم!
وهنا تتجلى المفارقة الكوميدية في أبهى حللها:
أن يُطلب من الشجرة أن تُثبت أنها خضراء، ومن النهر أن يُقدِّم شهادة تدفق، ومن الشمس أن توقّع على سجل الإضاءة الصباحية.
إنهم لا يطلبون بصمتي… إنهم يسجنونها.
يسجنونها لأنهم عاجزون عن الخروج منها.
تُقلقهم لأنها لا تُحاصَر، وتُربكهم لأنها لا تُقاس، وتُزعجهم لأنها لا تنتظر الإذن لتكون.
في عُمان، حيث تتوزع بصمتي بين الثقافة والعلم والمجتمع، حيث تعرفني الندوات قبل أن تعرفني الأجهزة، وحيث يشهد الأثر قبل أن يشهد السجل، يبدو طلب البصمة أشبه بمحاولة الإمساك بالريح…
لا لتوجيهها، بل للاطمئنان أنها ما زالت تهب.
ولستُ ضد النظام، ولا عدوًة للآلة، لكنني ضد اختزال الإنسان في إصبع، وضد تحويل الإبداع إلى إجراء، وضد معاملة الأثر وكأنه زائر عابر.
دعوني أقولها بهدوءٍ ساخر:
أنا لا أغيب كي أحتاج إلى إثبات حضور، ولا أنصرف كي أُوقّع على خروج.
أنا موجودة… موجودة بالأسئلة، وبالأفكار، وبالإسهامات التي لا تنتهي بانتهاء الدوام.
أما البصمة؛ فاتركوها في حالها.
فهي- شئتم أم أبيتم- تعيش هنا، بينكم، وفيكم، وتسكن المكان… حتى حين تُطفأ الأجهزة.
** شاعرة وكاتبة وباحثة في اللسانيات الحديثة وتحليل الخطاب
