محمد بن علي بن ضعين البادي
لطالما شكّلت سلطنة عُمان نموذجًا فريدًا في الدبلوماسية الهادئة، ورسّخت عبر عقود نهجًا ثابتًا يقوم على الحكمة، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وتغليب لغة الحوار على منطق الصراع. هذا النهج لم يكن مجرد شعارات سياسية؛ بل ممارسة عملية جعلت من عُمان طرفًا موثوقًا ومقبولًا في أصعب النزاعات وأكثرها تعقيدًا.
والسياسة الخارجية العُمانية، برؤية متزنة وقيادة واعية، انطلقت من مبدأ راسخ مفاده أن الأمن والسلم لا يتحققان بالقوة؛ بل ببناء جسور الثقة، وفتح مساحات للتفاهم، واحترام سيادة الدول، والإنصات لمخاوف جميع الأطراف دون انحياز أو إقصاء. ولهذا حافظت عُمان على علاقات متوازنة مع مختلف القوى الإقليمية والدولية، حتى في ذروة التوترات التي عصفت بالمنطقة.
وما جرى أمس الأول من توقيع اتفاق لتبادل الأسرى بين أطراف النزاع في الجمهورية اليمنية، يعد دليلًا حيًا وملموسًا على هذا الدور العُماني الإنساني والنبيل. فقد جاءت هذه الخطوة ثمرة لجهود دبلوماسية صامتة، هدفت إلى تخفيف مُعاناة البشر، وإعادة الأمل لآلاف الأسر التي أنهكها الانتظار، بعيدا عن الضجيج الإعلامي أو الاستثمار السياسي في آلام الآخرين.
لقد آمنت عُمان بأنَّ الملف الإنساني يجب أن يبقى منفصلا عن مسارات الصراع، وأن بناء السلام يبدأ بخطوات صغيرة لكنها صادقة، كإعادة أسير إلى أهله، ولمّ شمل أسرة، وفتح نافذة ثقة يمكن البناء عليها لاحقا. ومن هنا جاء تركيزها على الوساطة الإنسانية بوصفها مدخلا عقلانيا لتقريب وجهات النظر وتهيئة الأرضية لحلول أشمل.
ظلّت عُمان ثابتة على مواقفها في مختلف الحقب والمنعطفات، لم تغيّر بوصلتها بتغيّر الظروف، ولم تنجرّ وراء الاستقطابات أو الحسابات الضيقة. هذا الثبات المبدئي، القائم على الحكمة والاتزان واحترام السيادة، جعل من الموقف العُماني مرجعية موثوقة، ومن كلمته محل تقدير لدى جميع الأطراف. فالثقة التي نالتها عُمان لم تكن وليدة لحظة؛ بل ثمرة مسار طويل من الصدق السياسي والالتزام الأخلاقي.
وعلى الرغم من الضغوطات التي تتعرض لها عُمان من بعض الجيوش الإلكترونية التابعة لمختلف الأطراف، فإنها تواصل عملها بهدوء واتزان، غير مُلتفتة إلى تلك الأصوات الشاذة التي لا تكف عن الانتقاد اليومي. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل دلالة واضحة على أن الدول الراسخة لا تدار بضجيج المنصات، ولا تربكها الحملات العابرة؛ بل تمضي وفق قناعاتها ومصالحها العليا، حيث تكون الأفعال أبلغ من الكلمات، والنتائج أصدق من الشعارات.
إنَّ التوقيع على اتفاق تبادل الأسرى لا يعكس فقط رغبة الأطراف المعنية في التهدئة؛ بل يعكس كذلك المكانة التي تحظى بها سلطنة عُمان كوسيط نزيه يحظى باحترام الجميع وثقتهم. وهي مكانة لم تمنح من فراغ؛ بل بُنيت عبر سنوات من الاتزان، والوفاء بالعهود، والالتزام الصارم بخدمة السلم الإقليمي والدولي.
وهنا ندرك أنَّ العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي ليست علاقات عابرة أو ظرفية؛ بل علاقات راسخة وأسسها ثابتة، تقوم على المصير المشترك وروابط الأخوة والتاريخ والجغرافيا. وقد أثبتت التجارب أن هذه الدول، مهما اختلفت وجهات النظر في بعض الملفات، تبقى دائما سندا لبعضها البعض، تقف صفا واحدا عند الشدائد، وتقدم مصلحة الاستقرار والأمن الجماعي على أي اعتبارات أخرى.
إنَّ ما تقوم به سلطنة عُمان اليوم ليس موقفًا طارئًا ولا دورًا فرضته الظروف؛ بل هو امتداد لنهج أصيل يُؤمن بأنَّ السلام خيار استراتيجي، وأن الحكمة قوة، وأن الإنسان يجب أن يبقى أولوية مهما تعاظمت الخلافات. وفي زمن تتبدل فيه المواقف وتعلو فيه الأصوات، تظل عُمان ثابتة، تعمل بصمت، وتنجز بصدق، وتترك لأفعالها أن تتحدث عنها. وهكذا، ستبقى عُمان رقمًا صعبًا في مُعادلة الأمن والسلم، وضميرًا حيًا في منطقة أحوج ما تكون إلى صوت العقل والحكمة.
