موسى بن محمد الرئيسي **
تشهد سلطنة عُمان تحولًا رقميًا متسارعًا يُواكب مستجدات الثورة الصناعية الرابعة، في إطار رؤية "عُمان 2040" التي وضعت التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في صميم استراتيجيتها الوطنية. وتستهدف هذه الرؤية بناء اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار، والإسهام في تعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني وتنويعه، من خلال رفع مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات المُقبلة.
وفي هذا السياق، تواصل حكومتنا الرشيدة ترسيخ التحول الرقمي عبر حزمة متكاملة من السياسات والمُبادرات والحوافز التي تشمل مختلف القطاعات الاقتصادية، واضعة نصب عينيها تحقيق الريادة في مجالات التقنية والابتكار.
ومن بين أبرز هذه الجهود، يأتي صندوق عُمان المُستقبل برأسمال 2 مليار ريال عُماني، والذي يُركّز على دعم المشاريع المحلية الواعدة في مختلف القطاعات، بما يُعزز الابتكار ويرفد منظومة ريادة الأعمال بحلول جديدة قادرة على مواكبة متطلبات الاقتصاد الرقمي. كما ساهمت حوافز المناطق الحرة، مثل واحة المعرفة مسقط ومنطقة الدقم الاقتصادية، في استقطاب استثمارات كبرى من خلال توفير تراخيص رقمية مرنة، وملكية أجنبية كاملة، وحوافز ضريبية مشجعة.
وفي جانب البنية الأساسية، تمضي السلطنة قدمًا في تنفيذ استراتيجية النطاق العريض الوطني، مستهدفة تغطية 95% من المناطق الحضرية بحلول عام 2030، بما يُسهم في توفير قاعدة صلبة للتوسع في الخدمات الرقمية.
كما أطلقت الحكومة برامج نوعية مثل "البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي" و"عُمان الرقمية" و"برنامج الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة"، بهدف تسريع وتيرة التحول الرقمي وتمكين القطاع الخاص من أداء دور محوري في هذه المرحلة. وأصبحت الشركات العُمانية شريكًا رئيسيًا في تنفيذ هذه البرامج، إذ تشير الإحصاءات إلى أنَّ 30% من الشركات الصناعية الكبرى بدأت بالفعل تطبيق مشاريع الذكاء الاصطناعي، لا سيما في قطاعات التصنيع، والنفط والغاز، والخدمات اللوجستية.
أما الشركات الصغيرة والمتوسطة، فعلى الرغم من التحديات المرتبطة بكلفة التحول ونقص الخبرات التقنية، فقد وفرت الحكومة لها برامج تدريبية وحوافز مالية تشجيعية، لدعم انتقالها التدريجي إلى الحلول الرقمية.
وانعكست جهود التحول الرقمي على مجموعة من القطاعات الحيوية في السلطنة؛ ففي قطاع التصنيع، أدى استخدام الذكاء الاصطناعي في الصيانة التنبؤية إلى تقليل الأعطال غير المخططة بنسبة وصلت إلى 50%، وزيادة الكفاءة الإنتاجية. وفي قطاع الخدمات المالية، ساهمت تطبيقات الكشف عن الاحتيال وتحليل البيانات في تقليل الخسائر وتحسين تجربة العملاء. أما في قطاع التجزئة، فقد مكّنت أنظمة التوصية الذكية وتحليل البيانات الشركات من فهم سلوك المستهلكين وتعزيز المبيعات.
وتعد شركة عُمان للمرطبات "عُمان ريفكو" من النماذج المحلية الرائدة في توظيف التحول الرقمي، من خلال تطبيقها أنظمة متقدمة لإدارة الموارد (ERP)، وأتمتة المبيعات وخدمة العملاء، ومراقبة العمليات التصنيعية لحظيًا، الأمر الذي انعكس إيجابًا على كفاءتها التشغيلية وجودة منتجاتها.
وأظهر التحول الرقمي أثرًا واضحًا في رفع الكفاءة وتقليل التكاليف وخلق فرص جديدة في سوق العمل. وتشير التقديرات إلى أن انتقال 20% من الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى المنصات الرقمية يمكن أن يسهم في إيجاد ما بين 150 ألف إلى 200 ألف وظيفة جديدة في مجالات متنوعة، أبرزها التسويق الرقمي، التصميم، المحاسبة، والخدمات اللوجستية.
كما استقطب قطاع الذكاء الاصطناعي استثمارات بقيمة 60 مليون ريال في عام 2024، مع خطط لزيادة التمويل بنسبة 20% سنويًا لصالح الشركات الناشئة العاملة في المجال.
ورغم التقدم الملحوظ، لا يزال المشهد الرقمي في عُمان يواجه بعض التحديات، وفي مقدمتها الفجوة المهارية في تخصصات الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة. وقد بادرت الحكومة إلى إطلاق برامج تدريبية ودمج الذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية، سعيًا لسد هذه الفجوة وبناء رأس مال بشري مؤهل لمتطلبات المرحلة.
في المقابل، توفر البيئة الرقمية المتطورة في السلطنة فرصًا استثمارية واعدة جعلت منها وجهة جاذبة للمستثمرين الأجانب، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والابتكار. ويرى الخبراء أهمية مواصلة الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتطوير التشريعات والسياسات؛ بما يواكب التجارب الإقليمية الناجحة في دول مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.
وبالرغم من ذلك، هناك عدة أمثلة لشركات عُمانية ناجحة في التحول الرقمي ومن ضمنها شركة عُمان للمرطبات "عُمان ريفكو" التي نفذت خلال السنوات الأخيرة أربع مبادرات رقمية بارزة في سلطنة عُمان، شملت تقييم جاهزيتها للتحول الرقمي بالتعاون مع وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار وشركة يوكاجاوا اليابانية عبر مؤشر SIRI، والتحول السريع من نظام "أوراكل" إلى "SAP" لتطوير عملياتها، واعتماد نظام RoutePro لرقمنة المبيعات بالكامل، بالإضافة إلى تطبيق نظام line visibility لمراقبة وتحليل العمليات التصنيعية لحظيًا وتحسين كفاءتها.
وتُواصل سلطنة عُمان التقدم بخطى ثابتة نحو بناء اقتصاد رقمي متكامل، يستند إلى المعرفة والابتكار والتقنيات المتقدمة. ومع استمرار الجهود الحكومية والخاصة، والاستثمار في الكفاءات الوطنية والبنية التحتية الرقمية، تقترب السلطنة من تحقيق رؤيتها الطموحة بأن تصبح مركزًا إقليميًا للتكنولوجيا والتحول الرقمي بحلول عام 2040.
** عضو مجلس إدارة شركة عُمان للمرطبات "عُمان ريفكو"
