المياه المالحة والباحثون عن عمل

 

إسماعيل بن شهاب البلوشي

حينما تُفرد خرائط العالم على الطاولة، لا تكون مجرد خطوط وألوان؛ بل تتحول إلى أسئلة كبرى عن العدالة الطبيعية، وعن ذكاء البشر في استثمار ما بين أيديهم. وفي نقاش جانبي، لكنه عميق، حاولنا أن ننظر إلى العالم برؤية أبعد مما اعتدنا عليه، رؤية قد تصل إلى مستوى التفكير الاستراتيجي. تساءلنا: لماذا تبدو أجزاء من هذا الكوكب خضراء، عامرة بالفواكه والخضروات، مكتفية في غذائها، مستقرة في اقتصادها، بينما تعيش دول أخرى قاحلة، شحيحة المياه على الاستيراد، وتكافح فقط من أجل الاستمرار؟

وضعنا الخارطة أمامنا، ونظرنا إلى وطننا عُمان. الحقيقة واضحة ولا تحتاج إلى تجميل: نحن بلد يعاني شح المياه العذبة، وتعتمد مساحات واسعة منه على أمطار موسمية محدودة، وعلى مخزون جوفي حساس. لكن حين وسّعنا زاوية النظر، وخرجنا من اليابسة إلى ما حولها، ظهرت تلك البقعة الزرقاء الواسعة: البحر. هنا قال أحدهم جملة بسيطة لكنها صادمة في معناها: نحن نملك ماءً أكثر من كثير من الدول الزراعية، لكنه ماءٌ مالح.

من هنا وُلد السؤال الحقيقي: هل كون المياه مالحة يعني أنها خارج المعادلة؟ أم أن المشكلة ليست في الماء؛ بل في طريقة تفكيرنا تجاهه؟

التاريخ الإنساني يُعلّمنا أن الشعوب التي تقدّمت لم تكن بالضرورة الأكثر حظًا في الموارد؛ بل الأذكى في استثمار ما تملك. البحر، في الدول المتقدمة، ليس مجرد شاطئ للترفيه أو حدود جغرافية؛ بل منظومة اقتصادية متكاملة: غذاء، صناعة، وظائف، أمن استراتيجي. أما نحن، فما زال تعاملنا مع البحر- في كثير من الأحيان- تقليديًا، محدودًا، وموسميًا، لا يرقى إلى حجم الإمكانات ولا إلى حجم التحديات التي نواجهها.

عُمان تمتلك شريطًا ساحليًا طويلًا، وبحرًا غنيًا بالأسماك والكائنات البحرية، وتنوعًا بيئيًا نادرًا. ومع ذلك، ما زال قطاع الصيد البحري محصورًا في نمط تقليدي، يعتمد على الجهد الفردي، ويعاني من ضعف التصنيع، وقلة القيمة المضافة، وغياب سلاسل إنتاج متكاملة. نُصدر السمك خامًا، ونستورد منتجات غذائية مصنّعة بأضعاف سعرها. هنا تكمن المفارقة، وهنا أيضًا تضيع الفرص.

لو كنَّا دولة صناعية متقدمة، لكان البحر أولوية وطنية. لكانت هناك مراكز أبحاث متخصصة في الاستزراع السمكي، وفي تطوير سلالات بحرية ذات إنتاجية عالية. لكانت هناك مصانع للتعليب، والتجميد، والتجفيف، والتحويل الغذائي، مرتبطة بموانئ حديثة وسلاسل تصدير عالمية. الأهم من ذلك: لكان البحر بابًا واسعًا لتشغيل آلاف الباحثين عن عمل، من الصياد، إلى الفني، إلى المهندس، إلى الباحث العلمي.

المسألة لا تتعلق فقط بالغذاء؛ بل بالأمن الشامل. الأمن الغذائي يعني استقلال القرار، ويعني تقليل الهشاشة أمام الأزمات العالمية. الأمن الوظيفي يعني استقرار المجتمع، وتقليل الاحتقان، وبناء أمل حقيقي لدى الشباب. وعندما تتقاطع هذه العناصر مع البحر، فإننا لا نتحدث عن قطاع واحد؛ بل عن منظومة اقتصادية اجتماعية متكاملة.

البحر كذلك لا يقتصر على السمك؛ فهناك الطحالب، والأحياء الدقيقة، والمعادن البحرية، والطاقة، والسياحة البحرية، والخدمات اللوجستية. كل هذه مجالات ما زال الوطن إما غير مُستغِلٍ لها، أو أنها موارد مُستغلة في حدودها الدنيا. والسؤال المؤلم: هل ينقصنا المورد أم ينقصنا القرار الجريء والرؤية بعيدة المدى؟

نحن بلد باركه الله بالموقع، وبالتاريخ البحري، وبالدعاء النبوي الكريم لأهل عُمان. وهذه ليست عبارات عاطفية؛ بل عناصر قوة حقيقية لو أُحسن توظيفها. البحر ليس بديلًا عن المياه العذبة فقط؛ بل بديل عن أنماط اقتصادية مستهلكة لم تعد قادرة على استيعاب طموحات الشباب ولا متطلبات المستقبل.

التحول المطلوب ليس بسيطًا، لكنه ليس مستحيلًا. يحتاج إلى إرادة سياسية واضحة، وإلى شراكة حقيقية بين الدولة والقطاع الخاص، وإلى إدماج البحث العلمي في القرار الاقتصادي، لا كزينة شكلية؛ بل كعمود فقري للتنمية. يحتاج إلى أن ننظر إلى الباحث عن عمل لا كرقم في إحصائية؛ بل كطاقة معطلة تنتظر مشروعًا وطنيًا حقيقيًا تستثمر فيه.

في النهاية، المياه المالحة ليست مشكلة؛ بل فرصة. البحر ليس عائقًا؛ بل أفقًا مفتوحًا. والسؤال الذي يجب أن يظل حاضرًا أمامنا: هل نملك الشجاعة لنغيّر طريقة نظرنا، ونحوّل هذا الأزرق الواسع من مجرد مشهد على الخارطة إلى ركيزة للأمن الغذائي، والاجتماعي، والاستراتيجي لوطننا؟

ذلك هو التحدي، وتلك هي الفرصة، وما بينهما يقف الباحثون عن عمل… ينتظرون رؤية تتحول إلى فعل.

فهل نرى قرارًا شجاعًا وفوريًا بإلغاء شركة الاسماك الحالية التي حددت المال والفكر والمواد واعلان قرار استراتيجي بحجم مياه عُمان المالحة؟

الأكثر قراءة

z