د. خميس المقيمي **
نطرحُ في هذا المقال سؤالًا قد يبدو مُباشرًا في صياغته، لكنه شديد التعقيد في أبعاده: من هو جمهور إعلامنا الرسمي؟ هل هو المسؤول والمؤسسات الرسمية؟ أم المواطن الذي يتابع تفاصيل حياته اليومية وينتظر تفسيرًا لما يطرأ على واقعه الاقتصادي والاجتماعي؟ أم المقيم الذي يعيش التجربة العُمانية عن قُرب، ويُكوِّن انطباعاته عنها من خلال ما يراه ويسمعه عبر الإعلام، ثم يحمل هذه الصورة معه خارج البلاد؟ أم الدائرة الأوسع من جمهور خليجي وعربي ودولي تتشكّل رؤيته للدولة وهويتها، واقتصادها، وسياستها عبر خطابها الإعلامي العام؟!
هذا السؤال لا يخُص التعريف، وإنما يخُص الممارسة؛ فتحديد الجمهور المستهدف ينعكس مباشرةً على معنى النجاح الذي تسعى إليه المؤسسة الإعلامية. فحين لا تكون هذه المهمة واضحة في الوعي المهني اليومي، تتآكل الثقة دون أن يُعلن أحدٌ ذلك صراحة؛ فالإعلام لا يعمل في الفراغ، والجمهور بكافة أطيافه يجب أن يكون في منتصف تركيز المنظومة الإعلامية، من خلال طريقة بناء الرسالة ورسم أدواتها، وليس المسؤول أو الجهة الرسمية فقط، وذلك حتى لا تكون رسالتها محاولة إثبات الانضباط أمام السُلطة؛ بل القدرة على كسب ثقة المجتمع، وبناء علاقة مستمرة معه.
تتجلّى هذه الفكرة بوضوح في اللحظات التي تُتخذ فيها قرارات تمَس الحياة اليومية للناس؛ ففي مثل هذه اللحظات، لا يبحث الجمهور عن بيان تقني، ولا عن لغة تبريرية، وإنما عن خطاب يسبق أو يصاحب القرارات، يشرح الصورة الكاملة، ويضعها في سياقها، ويولي اهتمامًا حقيقيًا بالأسئلة التي تدور في المجالس والمنصات قبل أن تُطرح. فحين يغيب هذا الشرح، يتكوّن شعور بأن ما يُقدَّم إعلاميًا لا يوازي ما يعيشه الناس فعليًا، وتتحول القرارات من مسألة قابلة للفهم إلى مصدر لتوترٍ عامٍ يصعب احتواؤه لاحقًا.
هنا يتحدَّد الدور المهني للإعلام في لحظات التوتر العام، وذلك عبر إدارة النقاش بوعي زمني ومضموني لا عبر تكثيف التغطية، أو استدعاء الأصوات ذاتها كل مرّة. فاختيار التوقيت المثالي، وترتيب الأولويات، وصياغة الأسئلة المتوقعة، كلها أدوات تصنع الفارق بين خطاب يُضاعف القلق وخطاب يساعد على فهمه. في مثل هذه اللحظات، لا يحتاج الجمهور إلى مزيد من المعلومات بقدر حاجته إلى إطار يربط ما يحدث بحياته اليومية، ويمنحه شعورًا بأن ما يعيشه مفهومٌ ومقدَّرٌ ضمن الصورة العامة. المواطن يحتاج أن يُنظر إليه بوصفه شريكًا وطرفًا معنيًّا بفهم هذه القرارات، خصوصًا تلك التي تمس حياته اليومية. وهذا النوع من الخطاب قد لا ينهي النقاش الدائر، لكنه ينقله من مساحة التذمُّر إلى مساحة أهدأ للفهم، ويعيد شيئًا من التوازن إلى المزاج العام دون افتعال أو إنكار.
تزداد أهمية هذا الدور في مشهد إعلامي تتقاطع فيه المنصات التقليدية مع فضاء رقمي واسع ومتسارع؛ فالتعبير اليومي من خلال المنصات الرقمية أصبح مرآةً دقيقةً للمزاج العام، ولم يعُد هامشًا على الإطلاق. والتعامل مع هذا الفضاء يحتاج فهمًا مرنًا يُميِّز بين الممارسة الإعلامية المهنية، وبين التعبير الاجتماعي الطبيعي والذي لا ينبغي قراءته خارج سياقه أو تفسيره بأنه إساءة للدولة، فهو يعكس تنوُّع المجتمع وتناقضاته. فحين يشعر الناس أن الإعلام يتسع لاختلافهم، ويحتمل تنوُّع فهمهم وأسئلتهم، تتعزز الثقة بوصفها علاقة طبيعية، لا نتيجة مفروضة.
وفي هذا السياق، يتحتم النظر إلى الإطار التشريعي المنظّم للعمل الإعلامي بوصفه فرصة حقيقية لإعادة ترتيب هذه العلاقة؛ فالقوانين- وإنْ وَضَعَت الحدود العامة- إلا أن روح التطبيق، وطريقة القراءة المهنية، هما ما يحددان ما إذا كانت النتيجة خطابًا حيويًا قادرًا على التواصل، أو خطابًا حذرًا يكتفي بالحد الأدنى من الأداء. تزداد هذه الفرصة إلحاحًا في ظل التحديثات التي حملها قانون الإعلام الجديد، والذي أتاح إطارًا أوسع للاستقلال المهني وحق الجمهور في المعرفة، تاركًا مساحة حقيقية لتطوُّر الممارسة بقدر نضج الفهم داخل المؤسسات الإعلامية.
من هنا تبرز الحاجة إلى تبنّي فهم تشغيلي واضح للإعلام بوصفه خدمة عامة؛ فدوره أن يقود السرد، ويضع الجمهور في مركز الرسالة، ويقيس النجاح بمدى بناء الثقة وتراكم الأثر، لا بالاكتفاء بالالتزام الشكلي وحده. هذا الدور لا يحتاج إلى لوائح إضافية بقدر حاجته إلى ترسيخ أسئلة بسيطة داخل غرف الأخبار: لماذا نغطي هذا الموضوع الآن؟ كيف سيستقبله الناس؟ وما الذي سيفهمونه منه؟
يُترَجم هذا التوجه عمليًا عبر مسارات معروفة؛ أولها: وضوح تعريف الجمهور المستهدف داخل كل مؤسسة إعلامية بوصفه دوائر متداخلة تشمل المواطن في مختلف المحافظات، والمقيم الذي يعيش التجربة العُمانية من الداخل، والجمهور الخارجي الذي تتكوّن صورته عن الدولة من خلال سرديتها التنموية والاقتصادية. فكل مادة إعلامية لا تتوجه إلى هذه الدوائر، أو تتجاهلها عمليًا، تفقد نصف معناها قبل أن تُبث.
وثانيها: تعزيز دور غرف الأخبار كمراكز لفهم المجتمع، لا محطات لإعادة إنتاج البيانات. وثالثها: الاستثمار في فهم المزاج العام وقياس الأثر الفعلي عبر متابعة النقاشات وتحليل الفجوات بين ما يُقال رسميًا وما يشغل الناس فعليًا. ويظل عنصر الشفافية عاملًا مُكمِّلًا يمنح الجمهور حق التقييم، ويمنح المؤسسات فرصة التطوير المستمر.
وبعد الإشارة في هذا المقال، والمقالين السابقين، إلى جملة من الإشكالات المرتبطة بوظيفة الإعلام وحدود أثره وعلاقته بجمهوره، يبدو من البديهي الانتقال إلى سؤال آخر يتصل بجوهر مهمة الإعلام الرسمي: هل استطاع الإعلام العُماني تحويل الهوية العُمانية- بعناصرها المتعددة وما تحمله من تاريخ وقيم وتجربة إنسانية غنية- إلى مادة حيّة في الخطاب الإعلامي اليومي؟ أم بقي حضورها محصورًا في المناسبات والتغطيات الاحتفالية؟
هذا السؤال، بطبيعته، لا يحتمل إجابة أحادية، ولا يُفترَض أن يُحسم من زاوية واحدة؛ فمسألة الهوية، حين تُناقَش إعلاميًا، تتشكّل في وعي المجتمع بقدر ما تُصاغ داخل المؤسسات. ومن هنا، تبقى هذه المساحة مفتوحة لآرائكم وتجاربكم حول صورة الهوية العُمانية في الإعلام، وأين نجح الإعلام في تمثيلها، وأين أخفق في رأيكم؟
هذه الأسئلة ستكون مدخلًا للمقال المُقبل، الذي سيحاول مقاربة علاقة الإعلام بالهوية من زاوية الاستثمار في الهوية والسمت العُماني؛ بوصفها عملية مستمرة لصياغة المعنى في الحاضر، ورهانًا على المستقبل، لا مجرد استعادة رمزية للماضي.
** مختص في الإعلام والهوية
