سالم بن حمد الساعدي
لم تعُد ولاية صور تنظر إلى تاريخها بوصفه إرثًا محفوظًا في الذاكرة البحرية أو المدونات الفقهية أو الأغاني الشعبية فحسب، بل باتت تتعامل معه باعتباره موردًا معرفيًا واقتصاديًا وثقافيًا يمكن استثماره وتحويله إلى قيمة معاصرة تسهم في صناعة المستقبل. هذا ما تجسده فعاليات مؤتمر ولاية صور الدولي «البعد التاريخي والحضاري» الذي اختتمت أعماله وسط حضور بحثي وثقافي وأكاديمي واسع، مؤكدًا أنَّ المدينة العريقة لا تزال قادرة على إنتاج المعرفة لا حفظها فقط.
وقدّمت جلسات المؤتمر رؤية متكاملة تجمع بين التاريخ البحري الذي أسس مكانة صور التجارية في المحيط الهندي، والفقه الذي وثّق تشريعاتها في التعاملات البحرية، والفنون التي أرّخت لطقوس البحر وحياة النواخذة، واللغة التي نقلت لهجة أهل الساحل ومفرداتهم البحرية. ومن خلال هذا التكامل، لا ينظر المشاركون إلى صور كمدينة تاريخية، بل كـ«مختبر إنساني» تُحلَّل فيه الأدلة التي تشكّل الهوية على المستويين الاجتماعي والعلمي.
وفي الجلسات العلمية، برزت دراسات وثّقت الأبعاد الاقتصادية للعلاقات البحرية، وأخرى حللت المدونات الفقهية القديمة، إلى جانب بحوث تناولت اللهجات المحلية والأمثال الشعبية وفنون البحر. ويؤكد هذا التنوع أن الهوية ليست نصوصًا تُقرأ فقط، بل ثقافة تُمارس وقيم تُعاد صياغتها لتناسب الجيل الجديد.
وتذهب بعض الدراسات إلى أن الإرث البحري لصور ليس ملكًا للماضي وحده، بل يمكن أن يتحول اليوم إلى قوة اقتصادية وسياحية وثقافية، خاصة مع وجود منظومة بيئية فريدة تمتد من رأس الجنز ورأس الحد إلى موانئ صور التقليدية. وهي منظومة تمنح المدينة فرصة الاستثمار في السياحة المستدامة والاقتصاد الأزرق، بما يعزز دور التراث كرافد للتنمية لا مجرد ذاكرة محفوظة.
ويتناغم المؤتمر مع توجهات رؤية "عُمان 2040" التي تجعل من الثقافة والإنسان شريكين في بناء التنمية. فالمعرفة لم تعد ترفًا بحثيًا، بل وسيلة لحماية الهوية وصناعة منتجات ثقافية وسياحية يمكن أن تنعكس على المجتمع والاقتصاد. وقدمت صور مثالًا لهذا التحول عبر ربط البحث الأكاديمي بالحياة اليومية للمدينة، لتصبح الهوية مشروعًا متجددًا لا موروثًا جامدًا.
وأضفت الفعاليات المصاحبة في مركز فتح الخير قيمة اجتماعية واقتصادية للمؤتمر، إذ أتاحت للأسر المنتجة والحرفيين عرض منتجات تعكس مهاراتهم وتراثهم المحلي، فيما شكّلت زيارة المشاركين لنيابة رأس الحد والمركز العلمي برأس الجنز امتدادًا عمليًا للدراسات المقدمة، تربط بين البحث العلمي والميدان البيئي والتاريخي.
وتكشف أعمال المؤتمر أن البحر في صور ليس ميناءً للتجارة فقط، بل كتابًا مفتوحًا تكتب عليه الأجيال معنى المكان ودور الإنسان. ومن خلال تحويل الذاكرة إلى بحث، والبحث إلى معرفة، والمعرفة إلى مشروع تنموي، تؤكد صور أن مستقبلها لا يُصنع من الأمواج التي مضت، بل من الأفكار التي تبحر اليوم نحو الغد؛ فهي لا تستدعي التاريخ لتمجيده، بل لتفكيكه وفهمه وإعادة صياغته بما يخلق فرصًا جديدة تستثمر في الإنسان والمكان معًا. وبين أروقة مركز فتح الخير وسواحل رأس الحد ورأس الجنز، تتحول المعرفة إلى ممارسة، والتراث إلى منتج، والبحث إلى قيمة مجتمعية؛ فتغدو صور نموذجًا لمدينة تقرأ تاريخها لا لتكرره، بل لتبحر به نحو مستقبل أكثر وعيًا وقدرة على تحويل الثقافة إلى تنمية، والإنسان إلى شريك أصيل في اقتصاد المستقبل.
