عن معايير تقييم الإعلام وحدود الاكتفاء بالمؤشرات

 

د. خميس المقيمي **

khamis@almuqeemi.com

في السنوات الأخيرة، أحرز الإعلام العُماني تقدُّمًا ملحوظًا على مستوى التنظيم، وتحديث البنية الفنية، والانتظام في الأداء، وقد انعكس ذلك التقدُّم في تحسُّن موقعه ضمن عدد من المؤشرات والتقارير الدولية المعنية بالإعلام.

هذه المعطيات حقيقية، ولا يمكن إنكارها، وهي تُعبِّر عن جهد مؤسسي واستثمار مستمر، ورغبة واضحة في التطوير والمواكبة. غير أن السؤال الجوهري هنا لا يتعلق بوجود هذا التقدّم، ولكن بطبيعته، وحدوده، وبمدى ترجمته إلى تأثير فعلي في الوعي العام!

المؤشرات، بطبيعتها، تقيس جوانب محددة: الإطار التنظيمي، والبيئة التشريعية، وسلامة الإجراءات، ومستوى الانتظام، وهي أدوات مهمة لأي منظومة تسعى إلى تقييم موقعها في السياق الدولي وضبط مسار التطوير، لكنها لا تقيس- في الغالب- درجة الثقة، ولا عمق التأثير، ولا موقع الإعلام في الحياة اليومية للناس بوصفه مساحة للفهم، وتنظيم النقاش العام، وصناعة المعنى، وتعزيز الهوية الوطنية.

في التجارب الإعلامية المُقارَنة، يُميِّز الباحثون مستويات عديدة للنجاح؛ فهناك نجاح إداري يُقاس بالانتظام والالتزام، وهناك نجاح مهني يُقاس بجودة المحتوى، وتعددية المصادر، وقابلية التأثير. وهناك نجاح مجتمعي يُقاس بمدى اعتماد الجمهور على إعلامه الوطني لفهم ما يجري حوله، وبقدرته على أن يكون مساحة تفسير ونقاش، ومجالًا لتمثيل الهوية الوطنية وصناعة المعنى المشترك. غير أن الإشكال يبدأ عندما يُختزل النجاح في نجاحٍ واحدٍ من هذه المستويات، ويُتعامَل معه بوصفه دليلًا كافيًا على سلامة الدور.

هذا الخلل لا يظهر فجأةً، ولا يمكن رصده عبر التقارير والمؤشرات الدولية، ففي الوقت الذي يتحقق معه نوع من النجاح الذي تطمئن إليه المؤسسة، من الوارد أن يتكوَّن خارج أسوارها مسارٌ موازٍ للنقاش والمعرفة والترفيه، تُعاد فيه صياغة التصورات، وتتشكل فيه السرديات، بعيدًا عن الإطار الوطني الذي يُفترض أن يقوده الإعلام. واستمرار هذا الوضع- إنْ طال- لا يُضعف حضور المنصات الإعلامية الوطنية وحسب، ولكنه يفتح كذلك المجال لتآكل السرد الوطني نفسه، حين يُعاد تشكيل الوعي خارج الأُطر التي يُفترض أن تحمله وتوجّهه.

ونؤكد أن رؤيتنا هذه لا تعني التقليل من أهمية المؤشرات الدولية، ولا الدعوة إلى تجاهلها؛ فهي تظل أداة ضرورية لضبط المسار وتحديد نقاط القوة والضعف. غير أن الخطأ يكمُن في الأخذ بها تمامًا أو التعامل معها بوصفها الغاية النهائية، لا كجزء من منظومة تقييم أوسع تشمل الثقة، والتأثير، والقدرة على مواكبة التحولات الاجتماعية والثقافية.

في الحالة العُمانية، تزداد أهمية هذا النقاش بسبب طبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد؛ فالمجتمع يعيش تحولات مُتسارِعة، والأجيال الجديدة أصبحت أكثر اتصالًا بالعالم، وأكثر قدرة على المقارنة، وأقل ميلًا لتلقي الخطاب الأُحادي الاتجاه. هذه الأجيال نفسها لا تقيس مصداقية الإعلام بجودة الصورة أو نوعية "الجرافيكس" أو انتظام النشرات، لكنها تقيسه بقدرته على الجذب وتشكيل الشعور بالاعتزاز، إضافة إلى قدرته على تفسير القرارات، وشرح السياسات، وفتح نقاش مسؤول حول القضايا العامة، ضمن إطار وطني يحفظ التوازن والاستقرار.

يزدادُ الأمر حساسيةً حين ننظر إلى التحول الاقتصادي الذي تستهدفه رؤية "عُمان 2040"، وهو ما أشار إليه أحد المتفاعلين مع مقالنا السابق؛ فالانتقال إلى اقتصاد متنوع، وجذب الاستثمارات، وترويج الصادرات، وبناء صورة تنافسية للبلاد، كُلها مسارات لا يمكن أن تنجح دون ذراع إعلامي واعٍٍ، قادر على تقديم سردية اقتصادية حديثة ورصينة، لا تكتفي بعرض الفرص، لكنها تعكس هوية عُمان الاقتصادية، وتُبرز منطقها التنموي، وتُعزّز الثقة في بيئتها المؤسسية. هذا الخطاب مطلوبٌ أن يُخاطب الداخل والخارج بلُغة مهنية رفيعة ومُقنِعة، وبمعايير تُنافس ما يُقدَّم في المنصات الإعلامية العالمية؛ لأن الإعلام في هذا التحوُّل، وفي ظل المنافسة الاقتصادية والإعلامية الشرسة، يجب أن يكون شريكًا في بناء المناخ العام الذي تقوم عليه هذه التحولات، لا مجرد مُكمِّل بروتوكولي لها.

هنا يتحدد الفرق بين إعلام ناجح في التقارير، وإعلام ناجح في الوعي؛ الأول يُدار من الداخل ويُقاس بالأرقام، والثاني يُختبر خارج أسوار المؤسسة ويُقاس بثقة الناس واستعدادهم للعودة إلى المنصة طوعًا، لا بوصفها الخيار الوحيد المُتاح. والجمع بين هذين المستويين هو التحدي الحقيقي، وهو ما يُحدِّد اكتمال الدور من عدمه.

طرحُ هذا السؤال لا يستهدف التشكيك في المسار القائم، ولا التقليل من الجهود المبذولة، لكنه شرط أساسي لأي انتقال ناضج إلى مرحلة إعلامية أكثر اكتمالًا؛ فالاعتراف بتعدد معايير النجاح هو الخطوة الأولى نحو توسيع أُفق التقييم، ومن ثم توسيع أفق الدور؛ بما يخدم مصلحة البلاد وتعزيز استقرارها على المدى الطويل.

في المقال المُقبل، ننتقلُ بالنقاش إلى سؤالٍ أكثر عمقًا وحساسية: كيف تُبنى الثقة بين الخطاب الإعلامي وجمهوره في زمن تتعدد فيه الأصوات وتتزاحم السرديات؟ فالثقة لا تُصاغ عبر العناوين الكبرى ولا تُفرض بالمناسبات الرسمية، لكنها تتكوّن في التفاصيل اليومية التي قد تبدو هامشية في نظر القائمين على صياغة الرسالة الإعلامية. من هنا، تبرُز الحاجة إلى إعادة التفكير في معنى الخدمة الإعلامية، وهل هي أداء مؤسسي منضبط، أم التزام حيّ ومستمر تجاه الجمهور؟

** مختص في الإعلام والهوية

الأكثر قراءة

z