اليمن القادم

 

 

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

 

يرى الكثير من النَّاس في اليمن- عبر تاريخه السياسي المُعاصر- أيقونة للحروب الداخلية والتناحر القبلي والأطماع الخارجية، وينسبون كل ذلك إلى ما يصفونه "تخلُّف" اليمن واليمنيين وقابليتهم للاشتعال، مُقارنةً مع جوارهم الجغرافي الحيوي والذي يوصف في المقابل بـ"الاستقرار والسلم المجتمعي".

الحقيقة أنَّ اليمن بلدٌ حيويٌ، وشعب واعٍ يُمارس سُنن الحياة ودفع الأيام، لهذا انتقلَ اليمن إلى أطوار تاريخية عديدة ومختلفة، وعرف الكثير من الأحداث التاريخية التي تُعبِّر في حقيقتها عن تميُّز اليمن ووعي شعبه وليس تخلُّفه؛ فالمُتخلِّفون بطبعهم لا يصنعون التاريخ ويحتكمون إلى أقداره ويخضعون لسُننه خضوع البهائم واستكانة العابرين بحذر في رُدهات التاريخ ودفاتر الأيام. لقد كان أول من خرج على الملكية في اليمن هم الملكيون من أبناء اليمن حين تجاوزها الزمن، وكان أوَّل من خرج على الجمهورية لتصحيح مسارها هم الجمهوريون أنفسهم؛ فاليمني شديد الرقابة على ذاته وشديد العقاب لغيره حين يتذاكى عليه، وبين هذا وذاك فهو يتصف بالحساسية المُفرطة تجاه من يتدخَّل في شؤونه ويُمارس الوصاية عليه.

ما يحدث اليوم في اليمن حدث مرارًا في تاريخه القديم والأوسط والحديث؛ فاليمن بلد جاذب للأطماع؛ سواء من أبنائه أو من الغُزاة والطامعين في الثراء السريع، ولكن لكل حدثٍ زمانٌ ومكانٌ وأهدافٌ. فما يحدث اليوم في اليمن أتى بالتزامن مع مُخطط استراتيجي صهيو-أمريكي لتقسيم المنطقة والعبث بمكوناتها ومقدراتها، في سياق ما يُسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد". هذا المشروع الذي يلوح ويخبو منذ زرع الكيان المؤقت على أرض فلسطين، بقصد فرض الأمر الواقع وتمكين الكيان من الأرض والسيادة على الإقليم. وكانت نواته الأولى البارزة بعد تمكين العدو من أرض فلسطين في مشروع "أم الكبائر" إنجلترا والمسمى "حلف بغداد"، الذي ضمَّ في زمنه 1955 إنجلترا وكلًا من: تركيا عدنان مندريس، والعراق الملكي، وإيران الشاه، وباكستان، وجميعها كانت وقتذاك مستعمرات ومحميات تحت الهيمنة البريطانية. وكان المراد من الحلف احتلال سوريا أولًا بالتعاون بين العراق الملكي وتركيا عدنان مندريس، وتقسيمها، ومُحاربة القومية العربية والمد الناصري في الوطن العربي وتحجيم نفوذهما.

كانت نتيجة الحلف قيام الوحدة المصرية السورية عام 1958، وقيام ثورة 14 تموز بالعراق بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه وإسقاط الملكية بالعراق، ثم إعدام عدنان مندريس بتركيا، والخاتمة كانت انسحاب باكستان بعد "خذلانها" من قبل أعضاء الحلف في قضية كشمير.

ما يُراد من اليمن ولليمن اليوم، هو تقسيمه إلى شطرين: شمالي وجنوبي، وكما كان عليه الحال قبل مايو 1990م، وهذا المخطط وقبل أن يتحول إلى شماعة كان عنوانه في السابق "مظالم الوحدة على الجنوب"، وهنا قطعوا الطريق على حيوية أبناء اليمن وديدنهم التاريخي في تصحيح أخطاء الوحدة، والتي يعلمها الجميع في الشمال وفي الجنوب. لذا باغت من خَطَّطَ إلى اجتزاء اليمن اليوم في محنته وحصاره، إلى التناغم مع مُخطط "الشرق الأوسط الجديد"، وما تُسمى بـ"إسرائيل الكبرى"، ظنًا منه بأنَّ الوقت مثاليٌ لفصل دولة الجنوب وتحقيق التطبيع مع العدو وتوسعة رقعة الاستسلام معه، بحُجة السلام و"الاتفاقيات الإبراهيمية" وأخواتها، والظفر بثروات الجنوب، والحصول على منافذ بحرية على بحر العرب، والسيطرة على موانئ ومواقع استراتيجية مُهمة في الجنوب تتمثل في باب المندب وجزيرة سُقطرى.

تفاصيل ويوميات "طوفان الأقصى" برهنت على أن اليمن المُوحَّد رقمٌ صعبٌ وحجارة كَأْدَاء أمام تمرير التطبيع والملاحة في البحر الأحمر؛ لهذا كان لا بُد لهم من مغامرة بحجم تقسيم اليمن وعودته إلى عصر ما قبل الوحدة.

مشكلة من خطَّطوا لتقسيم اليمن اليوم راهنوا على عنصريْ المباغتة والأمر الواقع، لهذا رموا بجميع أوراقهم وكشفوا كل نواياهم دفعة واحدة، ولم يضعوا في حساباتهم- على ما يبدو- استراتيجيةً للخروج من الأزمة في حال تعثَّرَ المخطط وإفشاله وتطويقه. وهنا يمكن الجزم بأن المخطط سيفشل لأنه أتى في المكان الخطأ وفي الزمن الخطأ كذلك؛ فغالبية اليمنيين اليوم مع إصلاح أخطاء الوحدة وضد الانفصال، ومرارات تجاربهم منذ عام 2015 ولغاية اليوم رسَّخت تلك القناعة وحولتها إلى عقيدة عميقة. يُضاف على ذلك، أن غالبية اليمنيين اليوم وبعد الطوفان بالتحديد، مع فلسطين ومع الحق العربي، وضد الكيان وداعميه والتطبيع بأسمائه المتعددة جُملةً وتفصيلًا. كما تيقَّن اليمني اليوم بأن جميع مشكلاته هي من مخططات الخارج وتدخلاته في شؤونهم، وأيقن اليمني- اليوم أكثر من أي وقت مضى- حجم ثروات بلاده وأهمية اليمن الجغرافية في موازين القوى الإقليمية والدولية، لهذا سيتشبث اليمني أكثر وأكثر باليمن المُوحَّد والمصير الواحد، وسيلتقط هذا الظرف التاريخي الاستثنائي لبناء دولته الوطنية التي حلم بها طويلًا، والتي دفع ثمنها عقودًا من المُعاناة والفقر والفساد والهيمنة وقوافل من الشهداء.

قبل اللقاء.. اليمن كاليمني في بساطته الظاهرية وسماحته وقيمه وأخلاقه، ولكنه صعب المِراس وشديد الثأر والانتقام حين يتعرَّض لظُلمٍ من أحدٍ؛ فاحذر عدوك مرة، واحذر من انتقام اليمني وثأره لكرامته ألف مرة!

وبالشكر تدوم النِعم.

الأكثر قراءة

z