أن لا تهتم

 

 

 

 

صاحب السمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد

 

أن لا تهتم مهارة لا يتقنها الكثير رغم أنَّها بوابة عبور إلى الطمأنينة والسلام الداخلي لمن صفا فؤاده وهدأت نفسه وتعلَّم كيف يفرق بين ما يستحق الالتفات إليه وما لا يستحق؛ فكثير من الأمور وبعض الأشخاص لا يستحقون أن نهتم بهم ولا حتى أن نُفكر بهم ولو للحظات.

وتشير دراسات عالمية إلى أنَّ 90% مما نهتم به ونقلق بشأنه لا أهمية له؛ بل هو مجرد وهم سمحنا له أن يتضخم في أذهاننا ويستحوذ على تفكيرنا. ولذا كثيرون يستنزفهم الاهتمام الزائد ويثقلهم القلق المتراكم لأنهم يعطون العديد من الأمور والأشخاص قيمة أكثر من قيمتهم وحجماً أكبر من حجمهم، ويتفاعلون مع أي حدث، ويتأثرون بأي مشهد، ويستجيبون لمؤثرات شتى في محيطهم الداخلي والخارجي فيترك ذلك أثره المتعب على نفوسهم، ليصبح الضيق رفيقهم والكآبة لا تفارقهم.

والحل أن نتعلم أن لا نهتم، ولنكن كالماء لا تؤثر في تدفقنا صخيرات الطريق، نعبرها ماضين في مسارنا غير آبهين؛ فما لا تُعطيه قيمة، لا وزن له ولا أهمية بمقياسك، وتبقى أنت الماء تعبر بينها وحولها في نهر حياتك الرحبة.

وأن لا تهتم لا يعني اللامبالاة أو الهروب من المسؤولية؛ بل إنه وعي ناضج يختار أن لا يتشنَّج عصبيًا ولا يثقل نفسه بالهم والتفكير الزائد، وأن يعتني بحماية سلامه الداخلي أولاً قبل كل شيء، فلا يسمح للظروف والمؤثرات السلبية وضغوط الحياة أن تهيمن على روحه فتهز كيانه وتخلخل توازنه النفسي.

فلا للمبالغة في الإحباط والحزن ولا لتقزيم الذات وجلدها بسبب فشل في تغيير واقع لا يمكن تغييره أو تعديل ظروف لا استطاعة في تعديلها.

"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة: 286)، هذه الآية الكريمة تذكير لنا بأنَّ للإنسان طاقة محدودة للاحتمال ولا يجب أن يتحمل أثقالًا فوق طاقته؛ فلنخفف من الأثقال العالقة فوق كواهلنا، فحمل الأثقال يرهق الروح وقد يقودها إلى حافة الانهيار لتسقط إلى أعماق نهايتها المأساوية.

ولذا لنسبح أحياناً مع التيار ولا نقاوم ما لا نستطيع مقاومته ولندع مشيئة الله تقود خطواتنا والانسياب مع الحياة كما قدر لها أن تنساب على طبيعتها... لنهدأ ولنتنفس بعمق، لعل نفحات من السلام الداخلي تسري في نفوسنا.

قال الإمام الشافعي: "دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء".

أغلق نوافذ القلق على مالا يمكنك تغييره وافتح أبواب التفاؤل والأمل سعيًا إلى ما يمكنك تغييره.

فأن لا تهتم ليس انسحابًا؛ بل قرار حكيم منك بما ينبغي أن لا تهتم به مغلقاً عنه منافذك، ليبقى فقط ما يهمك- باختيارك- ضمن دائرة اهتمامك.

وأن لا تهتم يعني أيضًا أن تتوقف عن مقارنة حياتك بحياة الآخرين فلكل إنسان حياته المختلفة، ولا وجود لحياة مثالية، فكل حياة مغموسة بنقائصها.

وأن لا تحاول إرضاء الجميع؛ حيث إن "رضا الناس غاية لا تدرك"، وأن لا تقسو على نفسك من أجل أن تكون الأفضل دائمًا.

"إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا". (الأسراء: 37).

دعْ نفسك تسير في هذه الدنيا بهدوء وقبول بلا صراعات مع قدرك. وكُنْ بسيطًا راضيًا مُدركًا أن السلام الحقيقي يبدأ من ذاتك وبقدرتك على أن لا تهتم.

الأكثر قراءة

z