د. عبدالعزيز بن محمد الصوافي **
في أروقة المؤسسات الخدمية، يظهر أحيانًا نمط سلوكي مثير للجدل ودخيل على مجتمعاتنا؛ حيث نرى مسؤولًا يتعالى على موظفيه، ويضع العراقيل أمام المراجعين، ويشعر بالنشوة كلما أهان من حوله.
هذا السلوك ليس مجرد غرور عابر، بل يرتبط بآليات نفسية عميقة تكشف عن خلل في إدراك المعنى الحقيقي للسلطة والهوية.
تشير دراسة منشورة في "مجلة علم النفس التطبيقي"Journal of Applied Psychology إلى أن بعض الأفراد عندما يحصلون على سلطة دون ضوابط أخلاقية، تتضخم لديهم نزعة السيطرة، ويبدأون في ممارسة ما يُعرف بـ"الاستبداد الصغير" (Petty Tyranny). هذا النمط يتسم بفرض القيود غير الضرورية، الإهانة العلنية، والتلذذ بإشعار الآخرين بالدونية، بهدف تعزيز شعورهم الداخلي الهش باستخدام القوة والتعالي واستنقاص الأخرين.
علم النفس السلوكي يُفسر هذه الظاهرة من خلال مفهوم "التعويض النفسي"؛ فالمسؤول الذي يفتقر إلى الكفاءة الحقيقية أو يُعاني من صراعات داخلية متجذرة، يلجأ إلى إذلال الآخرين كآلية دفاعية لتعويض شعوره بالنقص والدونية. في هذا السياق،
كما وجدت دراسة أخرى في مجلة "الشخصية وعلم النفس الاجتماعي" Personality and Social Psychology Bulletin أن الأفراد ذوي "الأنا الهشَّة" يميلون إلى العدوانية اللفظية عندما يشعرون بتهديد مكانتهم، حتى لو كان التهديد وهميًا وغير مؤثر.
لقد بلغ الأمر ببعض القيادات المتعالية إلى حدّ الاعتقاد بأن ترشيحهم لموظف ما لوظيفة أو منصب معين يُعدّ منّةً أو دينًا مستحقًا، يجب على ذلك الموظف سداده طيلة حياته المهنية من خلال إظهار معاني الطاعة العمياء والخضوع الدائم. وهذا تصور خاطئ؛ إذ إنّ عملية الترشيح لا تعدو كونها جزءًا من مسؤوليات القائد وواجبات المنصب الذي يشغله.
لكن لماذا يشعر هذا المسؤول بالنشوة عند إهانة وإذلال الأخرين؟ هنا يظهر دور هرمون "الدوبامين" المرتبط بمراكز المكافأة في الدماغ.
وفقًا لأبحاث نشرتها مجلة "علوم الأعصاب الطبيعية" Nature Neuroscience، فإن السلوكيات التي تمنح شعورًا بالسيطرة المطلقة تُحفِّز إفراز الدوبامين؛ مما يجعل الإذلال بالنسبة للبعض تجربة "مُكافِئة" مريحة لهم نفسيًا، رغم أنها ممارسة سامة اجتماعيًا وإداريًا.
لكن.. ما النتيجة المتوقعة لوجود هذا النوع من القيادات السامة؟
النتيجة خلق بيئة عمل مشحونة بالتوتر والكراهية وطاردة للكفاءات، انخفاض في الإنتاجية، وتآكل الثقة المؤسسية.
والحل يبدأ من بناء ثقافة تنظيمية تضع حدودًا واضحة للسلطة، وتعزيز قيم الاحترام والمساءلة. فالمسؤول الحقيقي لا تُقاس قوته بكمية الإهانات التي يوزعها هنا وهناك؛ بل بقدرته على تمكين الآخرين واحترامهم.
** باحث أكاديمي
