الشيك.. أداة وفاء أم أداة خداع؟ رحلة في قلب الجريمة المالية

 

 

 

محمد بن أنور البلوشي

تبدأ القصة في عام 1996، حينما قصدني أحد أصحاب المحلات طالبًا مبلغ 50 ريالًا عُمانيًا نقدًا مقابل شيك مؤجل السداد. وقد أصدر الشيك باسم "نقدًا"؛ بما يعني أن بإمكان أي شخص تقديمه للبنك وسحب قيمته فورًا. كما كان مستعدًا لقبول 40 ريالًا فقط.

والسؤال الجوهري هنا: لماذا لجأ إلى هذه المعاملة؟

الإجابة تكمن في الكيفية التي أسيء بها استخدام الشيكات في أسواقنا؛ فلم تعد تُستعمل كأدوات سداد مضمونة، بل تحولت في بعض الأحيان إلى وسائل للحصول على السيولة بصورة يائسة، وأحيانًا إلى أدوات تُستغل في خداع أشخاص لا يدركون المخاطر الكامنة وراءها. وتمثل هذه الواقعة الواحدة نموذجًا لمشكلة أوسع وأكثر عمقًا تؤثر على آلاف المتعاملين في السوق المالية.

الشيك ليس وعدًا وديًا ولا التزامًا عابرًا؛ بل هو أداة دفع قانونية. وعندما يصدر الشخص شيكًا، يفترض القانون أن الأموال موجودة في الحساب وأن البنك سيقوم بصرف المبلغ فور تقديم الشيك. فهو بمثابة أمر موجه من الساحب إلى البنك بالدفع عند الطلب.

ومع ذلك، يتعامل كثير من العملاء مع الشيك دون إدراك لثقله القانوني، كما تُصدر بعض البنوك دفاتر الشيكات دون تثقيف العملاء تثقيفًا كافيًا حول الالتزامات والعواقب القانونية المترتبة على استخدامها. إن الشيك امتياز وليس حقًا مطلقًا، ويقابله مسؤولية قانونية كبيرة.

توفر البنوك دفاتر الشيكات كجزء من خدماتها، وهذه الخدمة تدعم الحركة التجارية والمعاملات المالية. ومع ذلك، يبقى التساؤل قائمًا: هل تبذل البنوك العناية الواجبة الكافية قبل منح هذه الخدمة؟

في العديد من الحالات، تُصدر دفاتر الشيكات عند فتح الحساب بشكل روتيني، دون تقييم حقيقي لالتزام العميل المالي أو سلوكه الائتماني أو مستوى المخاطر المرتبطة به. ويتفاقم الأمر بسبب ضعف الوعي لدى كثير من العملاء بشأن العقوبات الجنائية والمدنية المترتبة على ارتجاع الشيكات. فكثيرون لا يدركون أن إصدار شيك دون رصيد كافٍ ليس مجرد سلوك خاطئ، بل هو جريمة يعاقب عليها القانون العُماني.

وتشير الإحصاءات إلى حجم المشكلة. فوفقًا لتقرير الاستقرار المالي لعام 2025 الصادر عن البنك المركزي العُماني، بلغ عدد الشيكات المرتجعة نتيجة عدم كفاية الرصيد في عام 2024 ما مجموعه 311764 شيكًا، ورغم أن هذا العدد يمثل تحسنًا بنسبة 13.89% مقارنة بعام 2023، فإنه ما يزال مرتفعًا بشكل ينذر بالخطر.

وقد شكلت الشيكات غير المسددة نسبة 8.9% من إجمالي الشيكات المعالجة خلال عام 2024. وكل شيك مرتجع يمثل قضية قانونية محتملة، أو صفقة تجارية منكسرة، أو خسارة مالية لمستفيد حسن النية. وخلف كل شيك مرتجع يقف ضحية- سواء كان فردًا أو صاحب محل أو مؤسسة صغيرة أو حتى بنكًا- حُرم من حق مالي ثابت.

وعلى الرغم من الدور المشكور الذي يقوم به البنك المركزي العُماني في تقليص هذه الأعداد، فإن الهدف الأمثل يجب أن يكون الوصول إلى صفر شيكات مرتجعة. فما لم يتحقق ذلك، سيظل الاحتيال وسوء الاستخدام يجدان منفذًا في النسيج المالي والاجتماعي.

ويجب ألا يتحول الشيك إلى أداة تخدع أو تُضلِّل أو تُستغل للإضرار بالآخرين، بل يجب أن يبقى وثيقة مالية موثوقة تدعم التجارة وتعزز الثقة والاستقرار المالي.

ومن الضروري الإشارة إلى قانون الجزاء العُماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 7/2018، والذي يعالج قضايا عدة من بينها: إصدار شيك دون وجود رصيد كافٍ، أو الامتناع المتعمد عن الوفاء، أو تغيير بيانات الشيك، أو سحب الأموال بعد إصدار الشيك بقصد منع صرفه.

وقد أكدت المحاكم العُمانية في عدد من القضايا أن إصدار شيك دون رصيد كافٍ يُعد فعلًا إجراميًا يعكس نية الاحتيال، ما لم يثبت الساحب خلاف ذلك. وشددت المحاكم على أن الشيك ليس مجرد دليل على الدين؛ بل هو أداة وفاء فورية، وعدم احترامه يُعد إخلالًا بالأمانة واعتداءً على الثقة العامة بالأدوات المالية.

ولمعالجة المشكلة، لا بُد من اتخاذ عدة تدابير:

أولًا: رغم أن دفاتر الشيكات تمثل خدمة مفيدة، إلا أنه ينبغي إعادة النظر في استخدامها في ظل عصر البنوك الرقمية والتحويلات الفورية والدفع الإلكتروني الآمن، إذ إن تقليل الاعتماد على الشيكات سيقلل تلقائيًا من إساءة استخدامها.

ثانيًا: على البنوك أن تفرض معايير أكثر صرامة لمنح دفاتر الشيكات، مع مراعاة تأثير ذلك على الاستقرار المالي والمصلحة العامة.

ثالثًا: يجب تثقيف العملاء- وبصورة واضحة ومباشرة- حول العواقب الجنائية والمدنية لإساءة استخدام الشيكات، مع إلزامهم بالتوقيع على إقرارات قانونية تفيد فهمهم لهذه المسؤوليات.

رابعًا: بالنسبة للحسابات الجارية التي تمنح دفاتر شيكات، يمكن فرض حد أدنى من الرصيد-مثل خمسة آلاف ريال عُماني- كضمان إضافي لحقوق المستفيدين ولتقليل المخاطر النظامية.

وفي النهاية، يبقى الشيك رمزًا للثقة والمشروعية والمصداقية المالية. وإن إعادة بناء هذه الثقة وحمايتها تتطلب تعاونًا بين البنوك والعملاء والجهات الرقابية والمجتمع كافة.

وعندما يصبح إصدار الشيكات والوفاء بها ممارسة منضبطة قانونيًا لا عادة اجتماعية، سنصل إلى بيئة مالية يخشى فيها أحدٌ أن يكون ضحية للاحتيال أو الغش. وعندها فقط يصبح هدف الوصول إلى صفر شيكات مرتجعة هدفًا ممكنًا وواقعيًا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z